{وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً}
1. إذا سأل المؤمن: متى نصرُ الله؟ فإن جوابه حاضرٌ: ألا إن نصر الله قريبٌ؟ فيطمئنّ قلبُه، ويكمل مسيرته حتى يجيئ الله بنصره وفتحه؛ ويسأل أيضاً: هل يكون هلاك هؤلاء القوم المعتدين مرتبطاً بانتصارنا عليهم وغلبتنا لهم؟
2. هنا لم يَعِدْنا الله بقرب هلاك هؤلاء المعتدين، بل أخبرَنا بثلاثة أمور في شأن ذلك: الأمر الأول يخبرنا تعالى فيه بعشرات الآيات أن سبب هلاك هؤلاء سيكون الظلم الذي يتصفون به ويمارسونه ويقوم بهم، وانظر معي إلى هذه الآيات: يقول ربّنا: (وهل يُهلَك إلا القوم الظالمون)، ويقول: (لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ)، ويقول: (وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)، ويقول: (ومَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)، ويقول: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)، ويقول: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ)، ويقول: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ)، ويقول: (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ)، ويقول: (وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ)... .
3. ويعطينا الله سبحانه أوصافاً لهؤلاء الذين كتب الله عليهم الهلاك: فمن أوصافهم أنهم مسرفون (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ)، وأنهم مجرمون (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ)، وأنهم فاسقون (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)..
4. والأمر الثاني أن إرادة الله سبحانه بهلاك الأقوام أو حياتهم يجعلها الله عن بيّنة واضحة لا لبس فيها ولا ريبة، فكل شيء سيكون واضحاً مدلَّلاً عليه (لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ)؛ وحتى تتثبّت هذه البيّنة فإن الوقائع ستكبر وتنتشر، وسيستمر الأذى حتى تأتي مفاعيل الإرادة الإلهية وقضائها المبرم : (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
5. وينبهنا الله سبحانه أن هؤلاء الظالمين سيمنحهم الله فرصاً كثيرة للتوبة والرجوع، وسيمْهَد لهم في طغيانهم وإسرافهم قبل أن يوقع عليهم الهلاك حين يأتي الوقت المعلوم (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ)؛ وسيرسل الله لهم النذر والبيانات تحقيقاً للعدل بين الجميع (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ)؛ وهذا الأمر الإلهي بإهلاك المشرفين المجرمين الفاسقين المترفين الظالمين سيتكرر حين يتكرر وقوع ذلك منهم (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا)
6. والأمر الثالث أن الله جعل لمهلك هؤلاء أجلاً وموعداً (وتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا)؛ وتأمّل معيم الوجوه الثلاثة الصحيحة في قراءة "مهلككم" لدى قرائنا السبعة: فاللّفظ الأول "مَهلِكهم" اسم زمان يفيد أن لهلاكهم أجلاً سيَحلّ عليهم، واللفظ الثاني "مَهلَكهم" مصدر ميميّ بمعنى الهلاك، واللفظ الثالث "مُهلَكهم" مصدر ميمي من أهلك، واللفظان الأولان يفيدان معنى تحقق هلاكهم ذاتياً بتأطيرين زمانيين: فإن كان سؤالك عن زمان هلاكهم فجوابك أنه موعدٌ مفعول معلوم مقدّر عند ربك، وإن كان سؤالكَ عن حدوث هذا الهلاك فإنه واقع بهم في موعده وزمانه وأجله المحدد أيضاً؛ وأما اللفظ الثالث "مُهلَكهم" فهو مصدر ميميّ من "أهلك إهلاكاً"، وهذا يعني أن حدث الهلاك سيكون خارجياً يأتيهم بقوة غالبة تتعاقب عليهم و تُوصلهم إلى هلاكهم؛ وكأن القراءات تشير إلى اجتماع الأسباب الذاتية والخارجية لهلاكهم وإهلاكهم واستئصالهم وإفراغ قوتهم ونفوذهم وجوهرهم في داخل أرض الثغر وفي خارجها بسبب استدامة ظلمهم في أجلٍ ينهي علوّهم وعتوّهم، فلا يغرنّكم أو يحزننكم إمهال الله لهم، فإن وعد الله لا يتخلّف، وسنّته ماضية.