وصل عباس لسدة الحكم في الخامس عشر من يناير لعام 2005، وهو بالسبعين من عمره، وما زال مستمرًا حتى وصل للعشرية الأولى، وشهدت سنوات حكمه أحداثًا أدت لتراجع في المشروع الفلسطيني، كان من أهمها:
بدأ التحدي الأول أمام عباس الذي عيّن لاحقًا زعيمًا لحركة فتح، حينما أخفقت حركته أمام منافستها حماس في الانتخابات التشريعية يناير/كانون الثاني 2006 حينما حازت الأخيرة على أكثر من ثلثي أعضاء البرلمان.
هذا وضع عبّاس -الذي سبق وأن تعرض لمحاولة اغتيال أثناء تأدية واجب العزاء في رحيل ياسر عرفات- في أتون الصراع ضد حركة حماس التي شكّلت الحكومة العاشرة في مارس من العام ذاته، واصطدمت برفض الرجل السبعيني الإيفاء بالتزاماته دفع رواتب الموظفين الحكوميين.
وسبق ذلك أن تحدى عباس حماس كرأس حربة للمقاومة الفلسطينية في فيديو موثق قال فيه "كل واحد بتشوفوه حامل صاروخ طخوه"، وفي ذلك إشارة واضحة على العداء الذي يكنّه الرجل صاحب مشروع التسوية الأول (أوسلو 1993).
وقد كان ذلك واضحًا أيضًا في ادانته لعملية خطف الجندي (الإسرائيلي) جلعاد شاليط في الرابع والعشرين من حزيران 2006، -بعد فوز حماس بستة أشهر- وقد طالب الأخيرة في تصريحه المشهور "على حماس أن تعيد الجندي المختطف إلى بتته".
ولا يمكن أن نستثني الحالة الأمنية القائمة بالضفة المحتلة والتي تقوم على اجهاض تجربة المقاومة بأشكالها كافة، والإبقاء على المقاومة بغصن الزيتون ومسيرات التنديد.
انسجامًا مع هذه الرؤية، أوعز عباس بعد حسم حركة حماس بقطاع غزة في يونيو 2007 إلى أجهزتها الأمنية بالضفة المحتلة لاجتثاث الحركة وعناصرها على يد كلٍ من (الأمن الوقائي، والمخابرات، والاستخبارات، والأمن الوطني)، حتى بلغت نسبة الاعتقالات السياسية في ذات العام نحو 800-1000 حالة، وإقصاء على الانتماء التنظيمي، والإيعاز إلى موظفي غزة بالاستنكاف عن العمل حتى يصبح الجهاز الحكومي مهدد بالسقوط.
وفي الوقت الذي كان به عباس يحاول محاصرة حماس بمشاركة إقليمية ومباركة أمريكية / إسرائيلية؛ كان نجلاه يعملان في الخفاء من أجل مراكمة ثروتهما على حساب الشعب الفلسطيني، وذلك ما كشفته القناة (الإسرائيلية) الأولى حول فساد نجلي محمود عباس (طارق وياسر) واستحواذهما على ملايين الدولارات من خزينة السلطة، وتسهيل معاملاتٍ لإقامة شركاتٍ في الداخل والخارج.
أراد عبّاس أن ينهي عامه الثالث في الحكم بإنجاز سياسي على ضوء الإخفاق في مواجهة حماس، فلجأ إلى مؤتمر أنابولس تشرين الثاني / نوفمبر 2007 بدعوة من وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس من أجل التوصل اتفاق سلام مع (إسرائيل)، ولكنّه أيضًا قد باء بالفشل.
في الأثناء كان عبّاس بمثابة المحرض الأول ضد حكم حماس في غزة، فقد أسند إليه مستشاره السياسي للراحل عرفات محمد رشيد تهمة حث يهود أولمرت -رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك-، على الاستمرار في حربه ضد غزة التي انطلقت في كانون الأول / ديسمبر 2007 تحت اسم معركة الفرقان، (الرصاص المصبوب).
غير أنّ عباس لم يكتفِ بذلك؛ بل سعى إلى سحب تقرير القاضي الأممي ريتشارد غولدستون رئيس اللجنة المكلفة بالتحقيق في انتهاكات الحرب على غزة، وفق ما قالته (إسرائيل).
وسعت أمريكا بدعمٍ من جهاتٍ عربية إلى نجدة أبو مازن من وحل الضغط الشعبي الممارس ضده لتفعيل عملية السلام مجددًا، وقد استؤنفت في سبتمبر/أيلول 2010 المفاوضات بين السلطة و(إسرائيل) رغم أن ذلك كان محل رفض شعبي وفصائلي.
وتلقى عباس صفعة قوية من قناة الجزيرة في قطر حين واجهت سلطته بوثائق سرية تكشف مستوى التنازلات التي قدمها المفاوض الفلسطيني فيما يتعلق بالثوابت كالقدس واللاجئين.
وبعد أيامٍ قليلة بحلول ذكرى وفاة عرفات بالحادي عشر من سبتمبر 2004 واجه عبّاس انتقادات لاذعة على اثر تجاهله للكشف عن النتائج الحقيقية المؤدية إلى اغتيال عرفات، حتى من عناصر حركته "فتح".
وتجنبًا للدخول في صراعٍ داخلي مع حركته قام أبو مازن بفصل القيادي محمد دحلان بالحركة موجهًا له تهم فساد، وهو بذلك عمل على التخلص من كبار المتنفذين داخل أروقة السلطة وحركة فتح.
هذا كلّه لم يكبح جماح الرجل ذي الشعر الشائب في العدول عن خيار التسوية الذي كان يقوده تحت سيف المال السياسي والابتزاز الأمريكي /الأوروبي.
وبينما لم يقف عباس أمام مسؤولياته كرئيس سلطة في وجه (إسرائيل) التي شنّت حربًا أخرى على غزة نهاية 2012. اتخذ خطوة أكثر انهزامية وافتتح العام 2013 بمبادرة قوامها استئناف المفاوضات دون شروط.
ولكن سرعان ما توقفت عجلة المفاوضات برفض (إسرائيل) الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى، الأمر الذي قاد عباس للدخول في مشروع جديد يتعلق بالانضمام إلى المنظمات الدولية وأبرزها الحصول على عضو غير مراقب في الأمم المتحدة.
استكمالًا لهذا المشروع تقدّم عباس العام الماضي 2014 إلى مجلس الأمن بمشروع "إنهاء الاحتلال" في غضون عامين، لكنه قوبل بالرفض، غير أنّ ذلك لم يضع حدًا لما أسمته الفصائل "العبثية السياسية"، حيث عاد أبو مازن مجددًا خياره العودة مرة أخرى إلى مجلس الأمن.
ولا يمكننا القفز عن دور أبو مازن خلال الحرب الأخيرة على غزة يونيو 2014، حينما دخل في صراع مع فصائل العمل الوطني على خلفية شروط المقاومة، مطالبًا الأخيرة بالتراجع عن موقفها المتعلق بإقامة ميناء ومطار مقابل وقف إطلاق النار.
وحاول أبو مازن وفق ما كشفه محضر اللقاء مع خالد مشعل في قطر إبان الحرب التي استمرت (51 يومًا) أن يقوّض انتصار المقاومة وامتلاك قرار الحرب والسلم في يده، مستثنيًا الفصائل الفلسطينية كافة وضاربًا عرض الحائط بالحق في المقاومة ضد الاحتلال.
وجاء العام الحالي ليضع عباس أمام أزمة أخلاقية أخرى تتعلق بمشاركته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مسيرة فرنسا (شارلي ايدو) ضد ما يسمى "الإرهاب" دون مراعاةٍ لمشاعر الفلسطينيين الذين يعاني أكثر من 10 آلاف شخصٍ منهم افتقاد المأوى، على ضوء الحرب وضياع فرص إعادة الإعمار، فضلًا عن تجاهل عبّاس دفع رواتب موظفي غزة حتى بعد تشكيل حكومة الوفاق الوطني في يونيو 2014.
إذًا هي سيرة مختصرة لعشرية رئيس (فلسطين، والسلطة، واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وحركة فتح)، بالثمانين من العمر. حصادٌ مر لفلسطين على مدار عشر سنوات، فهل سيستمر عبّاس بِعَدِّ الأيام وهو متمسك بالحكم والتنازلات على نهج نظرائه العرب، وهل سيستمر في الحكم لوقت الاحتفال بالعشرية الثانية بعمر التسعين، أم سيكمل عدّ الحروب على غزة في ظل حكمه؟!