د. يونس الأسطل
( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (
( الفتح : 18 )
أعلنت مركزية حركة فتح عن تَبَنِّيها للمقاومة السلمية الشعبية أمام تعنت الاحتلال فيما يتعلق بتهيئة الأجواء بما يحفظ بعض ماء الوجه عند الشروع في المفاوضات غير المباشرة؛ حيث تَمَنَّتْ على النتن يا هو أن يعلن عن تجميد الاستيطان لمدة ثلاثة أشهر، وقد رفض ذلك رفضاً باتاً؛ بل جاء الردُّ عليه بالإعلان عن آلاف الوحدات السكنية في القدس والضفة الغربية.
ولا ندري ما مقصودهم بالمقاومة السلمية، هل يسمحون فيها بالحجر والسكين، وفي وقتٍ لا حقٍ تقوم الحاجة للرد على نزيف الشهداء ببعض العمليات الاستشهادية، أو استخدام الرصاص في قنص الجنود، وهو لا يخرج عن كونه مقاومة سلمية بالنظر إلى فارق القوة مع الاحتلال، فشتان بين من يملك بِضْعَ بنادق بِشِقِّ الأنفس، وبين من يملك مئات الرؤوس النووية، والفسفور الأبيض، واليورانيوم المنضَّب والمخصَّب، وغير ذلك.
إن أغلب الظن أنهم يقصدون بالمقاومة السلمية الشعبية نموذج مسيرة الجمعة في نعلين وبلعين والمعصرة، حيث يتسلى الاحتلال على بضع عشرات يرميهم بالغاز المسيل للدموع، ويختم الفيلم بإصابة عدد منهم بالمطاط، أو الرصاص الحي، ثم ينفضُّ السامر إلى الجمعة القادمة وقد يحضر بعض النواب أو رئيس الحكومة ذاتَ مرةٍ لإلقاء كلمة، يشتمون فيها الاحتلال بإذنه.
إن هذا القرار إعلان عن فشل خَطِّ التسوية والمفاوضات، فهل ننتظر من حركة فتح أن تعلن عن الطلاق البائن للمفاوضات، والتعاون الأمني مع الاحتلال، أم أننا أمام أقوالٍ للاستهلاك الإعلامي دون أفعال، وإلَّا كيف نُفَسِّر ما كرَّره الأستاذ حاتم عبد القادر من أن الحكومة تمنع الشعب الفلسطيني في الخليل والضفة من التظاهر ضد سياسة العدوان على المقدسات بضمها للآثار اليهودية، أو بالتطهير العرقي في القدس، والتحضير لهدم المسجد الأقصى؟
فهل نفهم من ذلك أن الحركة تريد المقاومة الشعبية في غزة وحدها، وأن تكون موجهة لحكومة الوحدة الوطنية برئاسة أبي العبد هنية؟، أم أن القرار تعبير عن الأزمة بتجديف السلطة عكس رياح الشعب الفلسطيني الذي يُصَفِّقُ للمقاومة عندما تُحَقِّقُ إنجازاً عسكرياً يقطع الألسنة الحِداد التي تلمز المُطَّوِّعين من المؤمنين في المقاومة؛ بهدف استفزازهم للاشتباك مع العدو؛ حتى يجد الذريعة لتوجيه الضربة القاصمة لهم؟!.
هل يمكن أن نصدق ذلك الإعلان في الوقت الذي يطلب فيه دحلان من ضابطٍ سابقٍ في الوقائي أن يبعث له بأخبار دقيقة وسريعة عن منفذي عملية شرق خان يونس في عصر يوم الجمعة قبل الماضي، ثم يناقض نفسه حين يزعم بأن حركة حماس أو الحكومة قد اعتقلت أحد المنفذين، وإنما كان الاعتقال لضابطه الذي قام يستجيب له، ويبحث عن المنفذين للعملية، لكننا نعلم أن المقاومة الشعبية لا تحتاج إلى قرار سياسي، لا من رئيس ولا من تنظيم، إنما هي تعبير شعبي عن رفض الظلم والإجرام، عندما يبلغ السيل الزُّبى، ويطفح الكيل، وينشغل عنا الأخِِلَّاء، ويخذلنا الأقرباء والبُعَداء.
أما آية الفتح فتتحدث عن تحول المسيرة السلمية في لحظة الحسم إلى بيعةٍ على الموت، والثأر لمقتل عثمان بن عفان، عندما سَرَتْ شائعةٌ بأن قريشاً قد اغتالته، ثم تَبَيَّنَ أنه نبأ فاسقٍ، ولم يكن نبأً من سبأ.
وتتلخص قصة هذه الآية أن النبي عليه الصلاة والسلام قد استنفر أصحابه، وقبائل الأعراب حول المدينة؛ للخروج في مسيرة سلمية، يلبسون فيها ثياب الإحرام، ويسوقون معهم الهَدْيَ المُشْعَرة بعلامة تدل على أنهم ما خرجوا لقتال، إنما وصلوا وهم يجأرون بالتلبية لكسر الحصار المضروب عليهم منذ الهجرة، وقد مضى عليه سِتُّ سنين، ولا أدلَّ على ذلك من أنهم لا يحملون من السلاح إلا السيوف في قِِرابها.
فلما وصلوا إلى الحديبية، وهم لا يَشُكُّون أنهم سيتمكنون من الاعتمار؛ بناءً على أنها كانت وحياً بالمنام لنبيِّ الأنام عليه الصلاة والسلام، إذا بالناقة تَبْرُكُ، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنها قد حبسها حابس الفيل، وأن الله جل وعلا يريد أمراً آخر، لذلك فقد جعلتْ رسل قريش تجيء واحداً إثر الآخر، يريدون أن يصرفوه عن البيت، ثم رأى أن يبعث عثمان بن عثمان رضي الله عنه بحكم أنه من بني أمية، وهم كثير في مكة، فضلاً عن علاقته الحسنة بكثيرٍ من أهل مكة في الجاهلية.
وقد حرص رضي الله عنه أن يتصل بأكبر عدد من قريش، فقد أعلن لهم، وأَسَرَّ لهم إسراراً، فلما تأخر ثلاث ليالٍ سوياً؛ انطلقت شائعة تتحدث عن قيام قريش بقتل عثمان رضي الله عنه، فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أن تهيَّأ للاشتباك مع الجيش الذي يقف قُبالتهم؛ ليمنعهم من الزحف إلى الحرم، فقد وقف تحت شجرة، ودعا أصحابه إلى البيعة على الثبات، ولو أدَّى إلى الموت والشهادة ثأراً لدم عثمان؛ فإن السفراء لا يقتلون، ولكن المشركين لا يرقبون في مؤمن إلَّاً ولا ذمة.
لقد تدافع الصحابة يبايعون حتى داسوا الأمتعة، فمنهم من بايع مرتين أو ثلاثاً، فلما رأت قريش تلك الحماسة للقتال قذف الله الرعب في قلوبهم، فقال بعضهم لبعض: إننا لن نخلص إلى واحدٍ من هؤلاء إلا إذا قتل واحداً منا،فإذا قتلوا منا بِعِدَّتِهِمْ؛ فما العيش بعدهم؟!.
من هنا فقد مالوا إلى المهادنة، وقَبِلوا بالصلح، وطلبوا أن تضع الحرب أوزارها بينهم عشر سنين، مع تَعَنُّتٍ في بعض الشروط، والصياغات الشكلية، جعلت ابن الخطاب رضي الله عنه يقود معارضةً لإفشال ذلك الصلح؛ بدعوى أنه لونٌ من إعطاء الدَّنِية في الدين، لكنهم عندما نزلت سورة الفتح تنعته بالنصر العزيز أدركوا خطأهم، وعلموا أن الله عز وجل يريد أن يُحِقَّ الحقَّ بكلماته، ويقطع دابر الكافرين، ولكن بعد عامين من ذلك التاريخ، حين نقض كفرة قريش عهدهم، فكان أن فُتِحَتْ مكة عُنْوَةً، وزال كيان الشرك، وتطهر البيت العتيق، فقد جاء الحق، وزهق الباطل؛ إن الباطل كان زهوقا.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على كسر الحصار دون إراقة دماء، حتى تظلَّ صدورهم سليمة من الضغائن والأحقاد على القتلى، فيكونوا أقرب إلى الدخول في الإسلام.
ومن عجبٍ أن تُهْزَمَ قريش بالرعب؛ رغم أن الصحابة لا يناهزون خمس عشرة مائة، بعدد شهدائنا في معركة الفرقان الأخيرة، ذلك أن الأعراب قد أبطؤوا عليه؛ اعتقاداً منهم أنْ لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً، وزُيِّنَ ذلك في قلوبهم، وظنوا ظنَّ السَّوءِ، وكانوا قوماً بُوراً، مع أنهم زعموا أنْ قد شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا.
إن آية الفتح تؤكد بالقَسَم أن الله تبارك وتعالى قد رضي عن المؤمنين لحظة بيعتهم تحت الشجرة، وأنه علم ما في قلوبهم من الإيمان، والصدق في الإصرار على المجابهة، فكافأهم بإنزال السكينة في قلوبهم، وجعل ثوابهم فتحاً قريباً، هو القضاء على أوكار خيبر، واغتنام أموالها.
وقد سبق في صدر السورة الإخبار عن مِنَّةِ الله على قلوبهم بالسكينة؛ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، وليدخلهم بذلك جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ويكفر عنهم سيئاتهم، وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً، كما أراد بالصلح والفتح أن يعذب المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات الظانين بالله ظنَّ السوء، فقد غضب الله عليهم، ولعنهم، وأعدَّ لهم جهنم، وساءت مصيراً، ولن يعجزه ذلك، فلله جنود السموات والأرض، وكان الله عزيزاً حكيماً.
باختصار؛ فإن المقاومة السلمية الشعبية مشروعة؛ بشرط أن تكون مجديةً في انتزاع الحقوق من العدو؛ فإن لم تكن قادرة على ذلك وجب الفزع إلى السلاح، والبيعة على الموت، مهما كان فارق القوة المادية، فنحن إنما نقاتل عدونا بطاعتنا لله، وولايته لنا، وعدونا إنما يُهْزَمُ بمعصيته لله، وبقتال الله له، وقد تأذَّنَ ليبعثنَّ على اليهود إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، تحقيقاً للذلة المضروبة عليهم، والغضب النازل بساحتهم.
فإذا صدقت مركزية فتح في دعواها؛ فإن المقاومة السلمية قد فشلت، فليطلقوا أصفاد المقاومة؛ لتنتقم لتهويد المقدسات، والعدوان على الحرمات، وإزهاق النفوس، وإذْ لم يفعلوا فأولئك عند الله هم الكاذبون.
ولا تحسبنَّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون
1