تبدو (إسرائيل) مع تولي رئيس الأركان الجديد، الجنرال غادي آيزنكوت أكثر توتراً من أي وقت مضى. والسبب يعود أساساً إلى إحساس متزايد بضعف الثقة بالنفس على الأقل عسكرياً وضمن معايير معينة. وفي هذا السياق تشهد حالة الصراع بين أذرع الجيش على نيل الحصص من كعكعة الميزانية العسكرية الكبيرة، التي تقترب عملياً من عشرين مليار دولار سنوياً.
ومن الطبيعي أن الإحساس بالخطر ينبع أساساً من طابع المخاطر التي تواجهها الدولة العبرية أو المتوقع أن تواجهها في القريب. ومعروف أن التقديرات الإسرائيلية بشأن التطورات في المنطقة العربية في أعقاب سقوط الوضع الذي كان قائماً ركزت على الفرص والمخاطر. وكانت قبل هزة "الربيع العربي" تتحدّث التقديرات نفسها عن استبعاد مواجهات كبرى وبالتالي صار التركيز حينها وبشكل كبير على ما يُعرف بالخطر النووي الإيراني.
وفي إطار ذلك الوضع ركزت (إسرائيل) وبشكل متزايد في العقدين الماضيين على تعزيز ما بات يعرف بـ "الذراع الطويلة". ورغم أن الأنظار اتجهت أساساً إلى التطوير الكبير في سلاح الجو الإسرائيلي، خصوصاً الطائرات بعيدة المدى القادرة على ضرب أهداف في إيران وكذلك على الغواصات من طراز دولفين إلا أن جهداً كبيراً وجّه نحو سلاح الاستخبارات. ويكاد جهاز الاستخبارات الإسرائيلي لا يعرف نفسه من حجم التغييرات التي طرأت عليه والتي قضت بتغيير الشعار "الأفضلون للطيران" إلى "الأفضلون للاستخبارات" التي غدت عنوان التقدم التكنولوجي. وبديهي أن هذا السلاح استفاد أيضاً من واقع انضمام (إسرائيل) إلى نادي الدول مالكة أقمار التجسس والقادرة على إطلاق مثل هذه الأقمار.
غير أن كل ذلك كان على حساب أذرع أخرى في الجيش الإسرائيلي، خصوصاً على حساب القوات البرية. ولا يُغيّر من هذا الاستنتاج كثرة الحديث في وقت ما عن "جيش صغير وذكي" أو عن الوحدات البرية العالية التكنولوجيا ولا حتى عن تطور وحدات النخبة. ففي الاختبار الأول، في حرب لبنان الثانية، اكتشف الجيش الإسرائيلي أن تطوره التكنولوجي في الجو والبحر والاستخبارات لم يتح له حسم المعركة على الأرض.
ورغم الانتقادات ونتائج لجان التحقيق العسكرية والحديث عن عبر ودروس إلا أن الاختبار الثاني الرئيس في حرب الخمسين يوماً الأخيرة على قطاع غزة أظهر ليس فقط أن شيئاً لم يتغيّر بل أن الوضع ازداد سوءاً. وإذا كان هذا هو الحال مع قطاع غزة الذي كان، ولا يزال، يعتبر تهديداً متدني الحجم مقارنة بجبهات أخرى، فكيف سيكون الحال في حال انفجار صراع مع حزب الله مثلاً في الشمال.
ومن الجائز أن تجليات الصدام الأخير بين (إسرائيل) وحزب الله في مزارع شبعا إثر الغارة التي استهدفت شهداء القنيطرة بيّنت أن حسابات الحقل لا تنطبق على حسابات البيدر. وسرعان ما عادت (إسرائيل) إلى سياسة الاحتواء لمنع التصعيد بعدما أدركت أن التغييرات في نظرية القتال تجري أيضاً في الجانب الآخر.
وأياً يكن الحال ثمة إجماع بين المعلقين العسكريين الإسرائيليين على أنه، ومنذ وقت طويل، لم يتراكم خطر انفجار الوضع على أكثر من جبهة، أكثر مما هو الآن. فالخطر الأول الذي اعتمدته الاستخبارات الإسرائيلية، وهو الخطر النووي الإيراني، صار أشد حدة في ظل تفهّم غربي لمقتضيات الإيرانيين، وهو ما يجعل (إسرائيل) وحيدة تقريباً في رؤيتها، ومن دون حلفاء جديين ضده. وعدا ذلك ونتيجة تطورات الصراع في سوريا وانغماس كل من إيران وحزب الله علناً فيه نشأ نوع من التوحيد بين الجبهتين اللبنانية والسورية والعمق الإيراني أيضاً. وهناك خشية إسرائيلية من أن يكون الكلام حول ميل حماس لإنشاء قوة عسكرية لها في لبنان بداية لتوحيد أو إدراج جبهة غزة ضمن الجبهة الشمالية العميقة.
أمام رئيس الأركان الجديد الذي عمد، كما بينت المعطيات، إلى الإبقاء على قائدي سلاح البحرية وسلاح الجو لضمان الاستمرارية في عام التقلبات المقبل وإلى تغيير قائد الجبهة الجنوبية توجد أعباء عديدة أخرى. فالعلاقات بين الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأميركية ليست في أفضل حالاتها وهي مرشحة لتدهور أكبر في العامين المتبقيين من ولاية أوباما إذا بقي نتنياهو في الحكم. كما أن الوضع الداخلي الإسرائيلي لا يفسح كبير مجال لتوسيع موارد الجيش في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة. والأدهى أن احتمالات الصدام وانفجار الوضع مع الفلسطينيين في الضفة الغربية نتيجة انسداد أفق التسوية وأزمة تحويل أموال الضرائب للسلطة أو مع الفلسطينيين في غزة نتيجة تفاقم آثار الحصار، هي في تزايد مستمر. وكل هذا يدفع المعلقين للتساؤل: أين ستكون حرب آيزنكوت الأولى؟
ثمة أمر مؤكد وهو أن آيزنكوت، لن يدفع قواته البرية إلى أي حرب في ظل المعطيات القائمة ما يجعل أي حرب يمكن أن تقوم حرب استنزاف تقتصر على الطائرات والصواريخ أكثر مما تكون حرباً برية ولو محدودة. فمثل هذه الحرب تفتقر حالياً إلى متطلباتها، على الأقل من ناحية (إسرائيل).