في ظلمة المكان الموحش والسكون القاتل. بين قبورٍ مُلئت بالرفاتِ، والجماجم والعظام، يجلس "العم جُمعة" يترقّب اتصالًا من (فلان) لطلب حَفْرِ لحدٍ لـ"طفلٍ أو شيخٍ، امرأةٍ أو رجل، غني أو فقير" فجميعهم متساوون في تلك الحفرة.
ما إن يتلقّى جمعة أبو وردة (52 عامًا) اتصالًا من أحدهم بتجهيز بيتٍ لميتهم، مساحته لا تتعدى المترين، يلتقط (كريك) ويبدأ بالتجهيزات، ويعدّل موضع الفراش-التراب-، ويقرّب أربعة أغطية لتداري الضيف -بلاطات باطون-، ثم ينتظر قدومه ويسلّم ذويه المكان. يجلسون بجوار فقيدهم لدقائق معدودات، ثم يغطونه، ويتركونه رفقة أعماله.
تعود قصة "العم جمعة" -كما عُرف في وسطه-، إلى عهد والده الذي كان يعمل في صبّ الحجارة، و"السقافيات" (بلاطات) للمقابر، ويبيعها لأهل الميّت.
لم يعلم أنّ الزمن سيوصله لممارسة مهنة والده، ثم يتطوّر الأمر ليصبح "حفّار قبور" في مقبرة "الفالوجا" شمال قطاع غزة، يجهزها للأموات.
" كان عملي يقتصر على صناعة الحجارة وبلاطات الباطون التي توضع فوق الميّت، لكنّ أهل المتوفى باتوا يطلبون قبرًا مجهزًا، دون عناء الحفر". يقول أبو وردة.
بدأ "العم جمعة" وأولاده، حفر القبور منتصف تسعينيات القرن الماضي، حتى يومنا هذا، ليجهز ما يقارب (400 قبرٍ) للأموات بيديه.
وعن كيفية حفر القبور يشرحها بالقول "يتصل بي أهل الميّت، ويطلبون مني حفر قبر لفقيدهم، منهم من يريده بجوار والده، أو ابنه، أو أمه، وفق وصيةٍ يوصي بها، وآخرون لا يشترطون ذلك".
يخرج "العم جمعة" من منزله المجاور للمقبرة، وبيده (كريك، وسيخ حديد)، يبدأ بغرس السيخ في الأرض ليتأكّد من خلو المكان من أي قبورٍ سابقة، وما أن يتأكد حتى يبدأ برفقة أولاده بالحفر.
"الباشا والوزير والغفير كلهم بهالحفرة"، قالها أبو وردة، بعدما شرح كيفية تجهيز القبر "نعلّم مساحة مترين طولًا، و80سم عرضًا، ثم نرصّ 50 حجرًا على شكل بناءٍ مستطيل صغير(..) نضع أربع سقافيات مجاورة للقبر، ليغطي بها أهل الميت فقيدهم بعد دفنه".
توضع السقافيات فوق الميّت، ثم يبلل القليل من الطين ويوضع بين فروقاتها حتى لا يتسلل الرمل الذي سينثر فوقها؛ على الميت، ومن ثم تردم الرمال، ويوضع شاهدانِ مختلفان بالطول، الأكبر يوضع اتجاه الرأس الموجه على القبلة، والآخر عند القدمين.
استأذنا "العم جمعة" أن يعود بالزمن للوراء قليلًا، ليروي لنا حكاية عايشها أثناء حفره. صمت برهة وقال "بعض القبور أحفرها تتسع معي أثناء الحفر بشكل لافت، وأخرى كلما حفرت أعود بالمتر أقيسها فأجدها تضيق من جديد". وبعد تنهيدة قال "كلّه لقاء الأعمال.. اللهم أحسن خاتمتنا".
وفي قصة أخرى قال: "تلقيت اتصالًا من احدى العائلات لحفر قبرٍ لابنهم بجوار أمّه.. بدأنا بالحفر وبعد حفر القليل خرج من التربة ثعبان". واكتفى بسرد القصّة رافضًا الحديث عن تفاصيل حكاية صاحب القبر.
"حفرة ضيقة موحشة إما أن تكون روضةً من رياض الجنة، أو حفرةً من حفر النار" يضيف العم جمعة، "ذلك يقتصر على تأثيثها من جانب صاحبها بالعمل الصالح والذكر، فكل واحدٍ منا يستعد لهذا المكان، فسيأتي اليوم الذي يسكنه".
من يدخل ذلك المكان ليلًا قد يصاب بالرهبة بعض الشيء، إلا أنّ "العم جمعة" يجد فيه السكينة والأمان، ويقول عن ذلك "هم أكثر أمانًا من الأحياء، لا يؤذونك ولا يضرونك، وكلما مررت عليهم تقرأ القرآن على أرواحهم".
عمله كان بادئ الأمر لقاء المال حتى يعتاش من خلاله، إلا أنّه بات مع كل قبرٍ يحفره يرى به جهادًا للنفس، "ولا أنتظر أجرًا من البشر مقابل ذلك" وفق كلامه.
راودنا الفضول لمعرفة سعر تلك الحفرة التي سنسكنها يومًا، فأجاب "تحتاج خمسين حجرًا، و4 سقافات، والتكلفة الاجمالية للقبر تقترب من 500 شيكل".
يزداد الإقبال على "مقبرة الفالوجا" مع كلِ حربٍ تُشن على قطاع غزة، حتى أصبح بعضهم يُطلق عليها "مقبرة الشهداء".
ذهبنا نتجوّل بين القبور برفقة جمعة، حتى أشار لنا بيده وقال " هنا نزل صاروخ الاحتلال الذي بعثر القبور، وأصبحت الجثث ملقية في كل ركنٍ". وما زال يشير بيده ويقول "هنا كانت جثة طفلٍ صغير. وهنا أخرى كانت متحللة، وما أن وصلت يده إلى أحد أطراف المكان. توقف عن الحديث وأكمل السير صوبه".
وقفنا بجوارِ أحد القبور. فقال " هنا دفنت أحد الشهداء الذين خرجوا من القبور بعد القصف (الإسرائيلي) وكان جسده ما زال كما هو، لم يتحلل، يرتدي بزته العسكرية، ولحيته طويلة، وأشقر البشرة".
طيلة الحروب الثلاثة المتتالية على غزة، لم يضع "العم جمعة" الخوف أمام عينيه، رغم تهديد الاحتلال بقصف منزله بعد اتصالٍ هاتفي عليه. يعقّب على ذلك بالقول " عمل صعب، خاصة في الحروب، لكننا نحن أيضًا مجاهدون ولا أستطيع القول (لا) وغيري في أمس الحاجة لي(..) وضعت روحي مقابل روحهم، فطيلة الوقت كنت مطمئنًا واعتبرت نفسي مناضلًا".
في منتصف الليل كان يأتيه خبر أن في المستشفى شهداء وبحاجة قبور، ويتابع أبو وردة " ذات ليلة لم نسمع سوى صوت الزنانة في السماء، والصواريخ التي تدكّ المنازل، طلبوا حفر 14 قبرًا دفعة واحدة، وعلى آذان الفجر حفرتها برفقة أولادي(..) فلم أشعر سوى بالطمأنينة لأن عملي لله".