اضطرت أرملتان تقطنان في منطقة "جميزة السبيل" بمحافظة رفح جنوب قطاع غزة، إلى هجر منزلهما الأرضي المكون من حجرتين صغيرتين تأويهما من برد الشتاء وحر الصيف، بعد أن غمرته مياه الأمطار المختلطة بمياه الصرف الصحي.
معاناة السيدتين لم تقف عند هذا الحد، بل تعدى الأمر إلى اضطرارهن للسكن بالإيجار لأكثر من شهرين حتى ينتهي فصل الشتاء ويتسنى لهما العيش في مكان آمن بعيدا عن المياه العادمة والبرد القارص.
وحال السيدتين لا يختلف كثيرا عن سكان منطقة جميزة السبيل الذين يتعرضون سنويا للغرق، ما يدفعهم لترك منازلهم والسكن بالإيجار، أو هجر الطوابق السفلية منها والسكن بالطوابق العلوية حتى لا تغمرهم المياه عند المنخفضات الجوية.
تلك المنطقة ليست الوحيدة التي يعاني سكانها حيث وقفت على أكثر من منطقة تشهد غرقا متكررا في قطاع غزة "حي الأمل في محافظة خانيونس، و منطقة المغراقة في محافظة الوسطى، وحي الصفطاوي والعلمي في محافظة الشمال، دون وجود حل جذري، الأمر الذي دفعها لوضع الأزمة على طاولة المسؤولين وبحثها في محاولة للوصول إلى حل.
وفي زيارة ميدانية للاطلاع أكثر على حجم الكارثة، زارت حي جميزة السبيل وسارت فوق بقايا المنخفض الذي حول المنطقة الى وحل، وأكد سكان المنطقة أنهم يعانون من مشكلة الغرق منذ أكثر من 10 سنوات -تحديدا منذ انشاء محطة تصريف المياه المتواجدة في المكان- التابعة لمصلحة مياه بلديات الساحل، لكن المشكلة تفاقمت بشكل كبير منذ خمس سنوات عندما أصبحت محطتا تصريف "الإنجيلي" و"الجنينة" تصبان في "جميزة السبيل".
غرق وأمراض
مشكلة المواطنين لا تقتصر على الغرق عند كل منخفض شديد يطرق أبواب القطاع، بل يتعداه كما يقول المواطن سامي حجازي -صاحب أكثر المنازل تضررا في جميزة السبيل- "نعاني من الأمراض طوال فترة الشتاء والأطفال يصابون بالإسهال والحساسية من انتشار البعوض بعد كل عملية غرق".
واتهم حجازي البلدية ومصلحة مياه بلديات الساحل بإيقاف المحطة في المنخفضات وإطلاق المياه في الشارع مما يؤدي إلى تسربها إلى المنازل واختلاط مياه الصرف الصحي بمياه الأمطار.
وحسب مخطط محطات تصريف المياه والصرف الصحي في رفح، فإن هذه المنطقة هي مستودع لمياه الامطار المتدفقة من أكثر من مكان على ضوء انخفاضها عن سطح الأرض.
ويرى حجازي في حديثه لـ أن الحل يتمثل بتكفل البلديات دفع تكاليف ردم الطوابق الارضية من منازلهم مع الاكتفاء بالطوابق العلوية تجنبا لحالات الغرق.
ويتهم أهالي حي "جميزة السبيل" البلدية بخلق أزمة لغاية جمع التبرعات من الدول المانحة، "فكل سنة البلدية تستفيد وهي معنية ببقاء المشكلة" وفق قولهم.
مصلحة مياه بلديات الساحل برفح: نواجه مشكلات مالية تتعلق بالمانحين لدعم المشاريع
"الرسالة" طرقت أبواب بلدية رفح ومصلحة مياه بلديات الساحل المسؤولتان بشكل مباشر عن تصريف مياه الأمطار والصرف الصحي برفح، وقد اتفقتا على أن مشكلة غرق هذا الحي مرتبط بالبرك الموزعة على محافظة رفح والتي معظمها تصب في جميزة السبيل لأنها المنطقة الأكثر انخفاضا بالمحافظة، كما أكدتا أنهما قدمتا مشاريع معدة ومجهزة لأجل انهاء أزمة السكان، ولكنها بانتظار توقيع وزير الحكم المحلي نايف أبو خلف.
خط ناقل
رئيس بلدية رفح صبحي رضوان من ناحيته اكد أن المطلوب لحل الأزمة هو توفير خط ناقل من جميزة السبيل إلى ما يعرف بمنطقة "المحررات"، مبينا أن "المشروع جاهز ونبحث عن ممول له، وإذا نفذ المشروع يتم حل جزء كبير من المشكلة بنقل المياه الى المحررات وتصبح في الخزان الجوفي". وقدر تكلفة المشروع بمليون و200 ألف دولار.
جزء من حل مشكلة المنازل السبعة التي تغرق سنويا، كما يقول رضوان، هو الخط الناقل من بركة الجنينة، والجزء الثاني توسعة محطة الانجيلي وتكبير المضخات الموجودة فيها، مبينا أن البلدية ستعمل خط لمياه الامطار تحت الأرض لتجميعها مع تكبير الخط الناقل للمحررات.
وأكد رضوان أن البلدية قدمت لحكومة التوافق مشاريع (للخط الناقل) لحل مشكلة مياه الأمطار، بتكلفة 3 ملايين دولار، لكن حتى الآن لم يصل رد من الحكومة.
وتقاطع قول مصلحة مياه بلديات الساحل التي تدير مرفق المياه والصرف الصحي برفح والقائمة على تنفيذ مشاريع المياه مع تأكيد البلدية بضرورة إقامة خط ناقل موصول من حوض التجميع إلى منطقة المحررات، ليتم ترشيح هذه المياه في أحواض وحقنها في الخزان الجوفي.
وقال مدير دائرة الصرف الصحي في المصلحة المهندس فراس أبو نقيرة، إنه تم التواصل مع وكيل وزارة الحكم المحلي لتطوير منظومة العمل، وانشاء خط ناقل ومحطة لنقل المياه إلى المحررات، لكن حتى اللحظة لا رد.
بلديات القطاع: الحكومة مقصرة في حل مشكلة الغرق بغزة
وبانتقالنا إلى أكبر محافظات قطاع غزة مساحةً، خانيونس، بدت الحالة اكثر تعقيدا على ضوء غرق أكثر من 14 حيا من احيائها، ولكن جزءا منها يصنف كأحياء عشوائية لا تتبع التنظيم الحضري. وبناء عليه قالت إدارة الدفاع المدني بخانيونس، أنها رغم عدم قانونيتها إلا أنهم يقومون بجهود سنوية لغاية الحفاظ على ارواح السكان من الغرق.
وأكد الدفاع المدني لـ أن هذه المناطق ليس لها حل جذري، لكن يمكن تخفيف الغرق فيها عن طريق تنفيذ بعض المشاريع التي تحد من غرقها.
على ضوء ذلك، تواصلت مع نائب رئيس بلدية خانيونس المهندس صلاح أبو عبدو، لمعرفة أسباب الغرق ومعالجتها، فأوضح أن السبب عائد إلى ارتفاع كمية المياه في برك التجميع عن المنسوب المحدد، الأمر الذي يعرض السكان للغرق بشكل متكرر، مبينا دور البلدية في معالجة المشكلة بشكل مؤقت عبر تركيب مضخات لتصريف المياه بعيدا عن منازل المواطنين.
واعتبر أن الحصار المالي على غزة وعدم دخول مستلزمات البلديات، يقف عائقا أمام عدد من مشاريع البنى التحتية، كاشفا في الوقت ذاته عن مشروع اقامة بركة خاصة بـ"حي الأمل" بتمويل مليوني دولار من شركة الاتصالات الفلسطينية، وعند البدء بالتنفيذ جمدت الشركة المشروع لسبب غير معلوم حتى اللحظة.
وعن الكوارث المتوقع حدوثها ببقاء الحال على ما هو عليه، يقول نائب رئيس بلدية خانيونس: "لو زادت كميات الامطار سيحدث فيضان، وتغرق المنازل شرق بركة حي الأمل الذي يعد أكثر الاحياء عرضة للغرق"، موضحا أن البرك المتواجدة في خانيونس مسيطر عليها باستثناء بركة الأمل.
أكثر عرضة للغرق
مرورا بوسط القطاع، نجد أن منطقة "المغراقة"، هي من أكثر المناطق عرضة للغرق بشكل سنوي خصوصا أنها تهدد بفتح الاحتلال المياه سدود المياه العادمة تجاهها، الأمر الذي يحول المكان إلى بؤرة امراض.
وبعد ساعات من فتح الاحتلال أحد سدود المياه باتجاه المغراقة، سارعت الرسالة للوقوف على حال المواطنين هناك. وشاهدت أحد المواطنين وهو يحمل ما تبقى من أغراض منزله الأرضي، خشية غرقها بعدما غمرت المياه المنطقة.
وقال المواطن أبو خالد أبو معيلق لـ: "معاناتنا تتكرر سنويا، اليهود يفتحون علينا المياه، ونغرق، ولليوم لا يوجد حل نهائي للمشكلة"، مناشدا الجهات المعنية بحل المشكلة.
غير أن الرسالة وقفت خلال تحقيقها على اسباب اخرى كامنة غير تلك المعلنة المتعلقة بفتح السدود تجاه منازل أهالي المغراقة، حيث كشفت البلدية صاحبة النفوذ عن أن مساكن تتعرض للغرق هي غير مرخصة من الأصل وتقع بالقرب من حرم وادي غزة.
وقدم يوسف أبو هويشل رئيس بلدية المغراقة، سببا ثالثا، تعلق بعدم تنظيف مجرى وادي غزة وتراكم النفايات وركام المنازل في مجراه، الأمر الذي سبب بطء تدفق مياه الأمطار نحو البحر. وقال: "إن عددا من المواطنين يلقي النفايات والركام في مجرى الوادي مما يعيق تسريب مياه الأمطار إلى البحر"، محملًا حكومة التوافق جزءا من هذه المشكلة لعدم توفيرها شاحنات تنقل القمامة إلى مكب النفايات في جحر الديك.
وأشار إلى أن بلديات الوسطى اجتمعت مرات عدة مع وزارة الأشغال والزراعة والبيئة لتنظيف مجرى الوادي إلا أنه لم ينفذ أي من الخطط التي وضعتها البلدية بسبب عدم إيجاد ممول للمشروع.
ومن وجهة نظر أو هويشل فإن حل الأزمة يكون في أن تعوض الحكومة المواطنين بأراض أخرى بعيدة عن الوادي، إضافة إلى تضافر الجهود وإيجاد ممول لتنظيف وادي غزة.
وإلى آخر نقطة حطت أقدامنا فيها، شمال قطاع غزة، في مخيم جباليا تحديدا، وصلنا حي "العلمي" الواقع على الاطراف الشمالية من المخيم، كانت معظم منازله غارقة، حين اختلطت مياه الأمطار مع العادمة واقتحمتهم بعد ذلك.
يحاول أبو إبراهيم سالم بمساعدة أولاده الأربعة طرد المياه من منزله المغطى بألواح الاسبست، لكنه فقد الأمل بتصريفها حين ارتفع منسوب المياه في منزله عن نصف متر. يقول المواطن مسلم الذي انتابه الغضب طوال حديث "الرسالة" معه: "في كل فصل شتاء، تلازمنا مشكلة المياه المقتحمة، لا ترحمنا وتلوث كل شيء وتتلف الأجهزة الكهربائية".
يكمل الرجل الذي يعمل نجارا في إحدى الورش، والمعيل لعائلة مكونة من ٨ أفراد: "تواصلنا كثيرا مع بلدية الشمال ولكن لم يقدموا لنا شيئا، نريد حلا جذريا"
توسل
على مقربة من بيت مسلم، كانت صرخات الأرملة أم طارق تدوي في المكان، كانت قد أخذت طفلتيها صاعدة إلى الطابق الثاني من منزل زوجها، تتوسل طواقم الدفاع المدني لغاية اخراجها بعدما حاصرتهم المياه. كانت تصرخ "بناتي بموتو لا نريد الموت هنا".
وبرعاية الله ثم اثنين من رجال الدفاع المدني استطاعت الثلاثينية النجاة. تحسبنت ثم قالت "هذه حياة لا يعيشها الا الدواب، نريد حلا من الجهات المعنية"، ثم راحت إلى مدرسة تابعة لوكالة الغوث في المكان تأويها كما فعل باقي سكان الحي في حينه.
مدير بلدية جباليا المهندس يوسف خله، قال إن البلدية قدمت عددا من المشاريع لوكالة الغوث لتطوير شبكات الصرف الصحي في مخيم جباليا، مما يقلل من غرق عدد من المناطق.
وأضاف خله في حديث لـ، "تأخر تنفيذ هذه المشاريع من وكالة الغوث كونها المسؤول عن المخيم، ساعد في غرق عدد من الشوارع القريبة من بركة أبو راشد في مخيم جباليا". لافتًا إلى أن تأخر الدول المانحة في دعم الوكالة يساعد في تأخير تنفيذ المشاريع في هذه المنطقة، بينما اشار إلى أن مناطق اخرى تتعرض للغرق بسبب عدم تهيئة شبكات الصرف الصحي.
وأكد خله أن بلديته قدمت أيضًا رزمة من المشاريع لحكومة التوافق الوطني لتطوير المضخات والمصافي في الشوارع القريبة من بركة "أبو راشد" إلا أن الحكومة لم تف بوعودها للبلدية.
فيما اشار إلى تبني وكالة الغوث مشروعا بتكلفة 4-5 ملايين دولار، لأجل حقن مياه الأمطار في حي الصفطاوي الذي ينخفض عن سطح الأرض بمعدل 20 مترا، إلى الخزان الجوفي، مبينا أن مثل هذا المشروع يحتاج إلى أكثر من عامين لإنجازه.
في الاثناء أرجع أبو نقيرة (مصلحة مياه بلديات الساحل) السبب الأساسي وراء معظم حالات الغرق بمحافظات القطاع إلى نظام شبكات تصريف المياه المختلطة بين مياه الأمطار والصرف الصحي، منوها إلى ضرورة الفصل بين الاثنين حتى تعمل بكفاءة، تلافيا لغرق العشرات من المساكن.
وكشف أبو نقيرة عن مشكلات مالية اقتصادية تتعلق بالمانحين الذين من المفترض أن يملوا مشاريع البنى التحتية حيث يحجمون عن تحمل تكاليف تنفيذها.
الحكم المحلي بغزة: هناك جملة مشاريع معدة للتنفيذ بانتظار موافقة مجلس الوزراء
أمام هذه الحالة المعقدة والتي ألقيت في حجر الحكومة على ضوء تراجع المانحين عن تنفيذ مشاريع الصرف الصحي وشبكات تصريف مياه الامطار، توجهت "الرسالة" إلى وزارة الحكم المحلي في غزة، والتي أكدت على أن علاقتها بالبلديات "رقابية فقط"، وليس من مهامها تزويد البلديات بالآليات والمعدات، مبينة أن هناك لجنة مركزية لمراقبة خطة الطوارئ وتوفر للبلديات بعض المستلزمات الرئيسية من المانحين.
تنبيه للبلديات
وقال المهندس زهدي الغريز مساعد وكيل وزارة الحكم المحلي بغزة، إننا نبهنا البلديات لأخذ الاحتياطات اللازمة قبل المنخفضات، كما أننا عملنا اجتماعات مكثفة مع البلديات لدراسة أهم المشاريع التي من الممكن عملها لتخطي المنخفضات، هذه هي امكانيات الحكومة التي يمكن أن تقدمها للبلديات.
وأشار الغريز إلى أنه كان هناك جملة مشاريع معدة مسبقا للتنفيذ، (في عهد الحكومة السابقة بغزة)، وبدأت من دير البلح بمشروع رُصد له 5 ملايين دولار من المنحة القطرية، "لكن بمجرد قدوم حكومة التوافق كل المشاريع ألغيت وتوقفت".
وأكد الغريز في حديثه لـ ما قالته البلديات، بأنه تم رفع مشروعين من بلدية غزة ورفح، اطلعت عليهما وزارة الحكم المحلي بغزة، وسلمتهما لوزير الحكم المحلي في حكومة التوافق "أبو خلف"، على أن يتم التنفيذ، مضيفا "نحن إلى اليوم بانتظار الرد".
وبحسب الغريز فإن المشاريع المخطط لها لا تحتاج الكثير من الوقت، "فقط إذا وجد التمويل فهناك قابلية للتنفيذ؛ لأنها تحتاج اسمنت وخرسانة وبعض المواسير البلاستيكية وهي مواد غير ممنوعة من الاحتلال (الإسرائيلي). وتحدث الغريز بصراحة "مجلس الوزراء السابق كان يتعاطى بإيجابية مع احتياجات البلديات بقدر الإمكانيات المتوافرة".
وعلمت من مصدر آخر في وزارة الحكم المحلي، أن قطاع غزة لا يحظى بالأهمية الكافية لدى الحكومة التي تتخذ من رام الله مقرا لها، وعليه فهي لا تتعاطى مع مشاريع البنى التحتية التي تقدمها هياكل الوزارة في غزة.
وحاولت التواصل مع وزير الحكم المحلي في حكومة التوافق الوطني، لكنها لم تستطع الوصول إليه، وتواصلت مع مديرة مكتبه أكثر من مرة، لكنها في كل مرة أكدت أن الوزير في اجتماعات ومشغول، وعند سؤالنا لها عن اتهامات البلديات ووزارة الحكم المحلي في غزة بتقصير الوزير اتجاه غزة، اكتفت بنفي تلك الاتهامات، قائلة إن الوزير يعمل بأقصى جهده لحل مشكلات البلديات في غزة.
وإزاء ذلك، توصلت بعد إجرائها التحقيق إلى أن هناك تقصير واضح ومتعمد من حكومة التوافق في معالجتها لمشكلة الغرق المتكررة كل عام في بعض مناطق قطاع غزة، ما أدى إلى حدوث خلل في دور الجهات المانحة بدعم المشاريع المخطط لها والمقدمة من البلديات، بالإضافة إلى تجميد وتعطيل عدد كبير من المشاريع "إلى أجل غير مسمى".