زود الشاب "ع. م" أربعة من جيرانه في إحدى البنايات الجديدة شمال قطاع غزة بخطوط كهرباء مستقلة لكل منهم، حتى يتسنى لهم تمديد شبكة خطوط رسمية من شركة التوزيع لكامل البناية، مدراً بذلك دخلاً على جيبه الخاص قيمته 200 شيكل شهرياً بواقع 50 شيكل لكل منزل، لاسيما أنه لا يدفع مستحقات فاتورته لشركة الكهرباء.
وكل ما احتاجه "ع.م" لوصل الكهرباء لجيرانه بعيدا عن عيون رجال الرقابة والتفتيش التابعين لشركة توزيع الكهرباء، مجرد وصلات خارجية استقرت تحت الأرض لا تخضع لعداد أو فاتورة، مضاعفاً بذلك أزمة الكهرباء الخانقة في قطاع غزة، إذ تتعدد طرق وحيل سرقتها، وتزيد رداءة الشبكات الطين بلة، وتتسبب بكمية فاقد تصل لثلث كمية الكهرباء الواصلة للقطاع.
ورغم حملات شركة التوزيع للتقليل من كمية الفاقد إلا أن الجهات التي قابلتها "الرسالة" أكدت أن متابعتها للسرقات موسمية ولا تشمل جميع المناطق، فيما يعد الأخطر في القضية أن بعض عمليات التمديد والخطوط القلابة تحدث من خلال موظفي الشركة الذين يستغلون قدرتهم على الصعود إلى أعمدة الكهرباء.
كميات مهدورة
البحث عن معلومات حول كمية الفاقد في الكهرباء شابها التضارب في الأرقام، خاصة أن الفاقد ينقسم في القطاع إلى قسمين أولهما يسمى "أبيض" بسبب قدم الشبكات وحاجتها إلى إعادة تأهيل، وآخر "أسود" مصدره السرقات وخطوط "القلاب" والتلاعب بالعدادات، وهو الأخطر، ويعد النسبة الأكبر، حيث تبلغ نسبة متوسط هذا الفاقد بحسب عدة جهات تواصلت معها "الرسالة" نحو 30%.
ويعرف فاقد الطاقة الكهربائية بأنه الفرق بين الطاقة الكهربائية المستجلبة من مصادرها الأساسية والطاقة المباعة فعلياً (المصدرة بفواتير) لدى فئات الاستهلاك المختلفة والتي يتم رصدها بواسطة العدادات.
أبو جاسر: قدم الشبكة وعدم ملاءمتها لاحتياج السكان يزيد كمية الفاقد
"الرسالة" بدأت رحلة البحث عن المعلومات مع الدكتور أسعد أبو جاسر الأستاذ بكلية الهندسة الكهربائية بالجامعة الإسلامية، واعتبر بدوره أن الفاقد الفني بسبب رداءة الشبكات هو مشكلة موجودة في جميع الخطوط بسبب قدمها حيث تجاوز عمرها العشرين عاماً.
وبينً أن الشبكات أنشأت لتلبية احتياجات المواطنين والمباني الموجودة في تلك الفترة، ولم تراع التوسع العمراني الضخم الذي حدث خلال المدة الماضية، لذا أصبحت الشبكة غير ملائمة لاحتياجات السكان بالوضع الحالي، وبالتالي زادت القيم المسموح بها على الموصلات، وهو ما يتسبب بزيادة الفاقد.
وبحسب أبو جاسر فإن نسبة الفاقد المقبولة فنياً بحسب المعايير الدولية هي 5% فقط، موضحاً أن دراسة أجراها القسم منذ خمس سنوات على أحد الخطوط الرئيسية والمعروف "بخط القبة" أظهرت أن حجم الفاقد بسبب قدم الخطوط بلغ 12% أي أكثر من ضعف الكمية المسموحة، ومن المؤكد أنها زادت مع مرور السنوات. وأفاد أستاذ الهندسة الكهربائية أن معالجة الخط تمت عن طريق مكثفات وتغيير الخطوط.
وبحسب ذات الدراسة من الممكن توفير 13 ميجا وات أي ما يعادل قيمة خط إضافي للخطوط العشرة "الإسرائيلية" المزودة القطاع، والبالغ حجم قدرتها مجتمعة 120 ميجا وات، مبينة أن تكاليف المشروع ممكن أن تستعيدها الشركة خلال عامين من المواطنين مستخدمي الخدمة.
أما النوع الآخر من الفاقد والمسمى بالأسود الذي يعد استجلاب التيار دون المرور خلال العدادات، فيصل بحسب أبو جاسر إلى قرابة 15% أيضاً، وهو ما يعادل قدرة خط إضافي آخر، مبيناً أن علاج الظاهرة يحتاج إلى تعاون من الشركة والمواطنين، وكذلك جهات شرطية داعمة بالإضافة لسن تشريعات وقوانين رادعة.
بعض الموظفين متهم
حاولت معدة التحقيق الوصول إلى تجاوزات أخرى في محاولة لتسليط الضوء عليها وحلها من قبل المعنيين، فتواصلت مع أحد أصحاب المنازل المعتمدة على خط "قلاب"، حيث أخبرها أن أحد العاملين في شركة التوزيع هو من يتواصل معهم عند وجود حملات تفتيش، ويقوم بفصل الخط عنهم، ومن ثم شبكه مجددا بعد انتهاء الحملة.
العائلة التي تسكن في إحدى منازل منطقة الشجاعية أكدت أنها لم تعد تستفيد من الخط بسبب أزمة الكهرباء الحالية إلا أنها تستغله وقت تحسن الكهرباء. وأكدت العائلة أن موظف شركة توزيع الكهرباء يستفيد من فصل الخط وإعادته في كل مرة لأنه يحصل على مقابل مادي، وفق قولها.
ويصدق الرواية السابقة الكهربائي إحسان موسى عندما أكد ضلوع موظفي الشركة في عمليات تمديد الخطوط القلابة، مشيرا إلى أن من يسرق من أعمدة الكهرباء في غالبية الحالات هم موظفون في الشركة، لافتاً إلى أن الموظف وحده من يستطيع الصعود على أعمدة الكهرباء بحسب معاينته.
فني كهربائي: موظفون من الشركة يتواطؤون مع المواطنين في السرقات
ويقول موسى: "منذ مدة طويلة لا يستطيع أي كهربائي خارج إطار الشركة الصعود على الأعمدة خوفاً من الغرامة والسجن". وقدر الفاقد بــ 40% بحسب تواصله مع موظفين عاملين في الشركة.
ويرجع موسى "للرسالة" صعوبة اكتشاف بعض السرقات من قبل الشركة إلى استحداث أساليب جديدة، موضحا أيضا أن "تابلونات" الكهرباء في الكثير من البنايات يتم تمديدها بشكل عشوائي وغير مرتب لتشارك أكثر من "صنايعي" في التمديدات لذا يصعب كشف الأسلاك الأساسية من المسروقة، معتبرا أن الشركة مسؤولة لأنها تعطي التصاريح دون الكشف والإشراف على سير العمل داخل "التابلون".
ثلث الكهرباء مهدور
كما القط والفأر يتلاعب بعض المواطنين في الخطوط ويبتكرون أساليب جديدة للسرقات رصدتها "الرسالة" في غالبية مناطق القطاع، وبالتواصل مع أحد موظفي الشركة فضل عدم الكشف عن اسمه، أكد أن المواطنين يلجؤون للعديد من الحيل في السرقة أبرزها إيقاف الساعة في الفترة المسائية بالذات لضمان عدم وجود أي حملات تفتيش وكذلك عند الاستهلاك الكبير وقت الخبز أو الغسيل.
فيما يلجأ آخرون لتمديد خطي كهرباء الأول يدخل إلى العداد بينما الثاني قبل العداد ويلجأ للتغيير بين الخطين وقت الحملات والتفتيش وهو ما يزيد من صعوبة اكتشاف السرقات والسيطرة عليها.
وأقر الموظف بوجود زملاء له يلجئون لتمديد خطوط قلابة لبعض المنازل، إلا أنه أكد أن هذه الظاهرة قلت نوعاً ما بسبب رقابة الشركة وتهديد الموظفين بالغرامة والفصل.
ويحصل الموظف في حال ساهم في ايصال خطوط مسروقة على مبلغ قد يصل إلى 200 شيكل.
وتغرم شركة الكهرباء المخالفين وأصحاب السرقات بغرامات تتراوح ما بين 500 إلى 1500 شيكل حسب حجم السرقات ونوعيتها فتختلف الغرامة في حال السرقة من العامود مباشرة ودون عداد عن السرقة من منازل الجيران بخطوط قلابة.
الطباع: ملف الكهرباء يدار بشكل سيء كمنظومة متكاملة
وخلال جولة جمع البيانات وجدت "الرسالة" أن عدد الاشتراكات الرسمية والمسجلة بقطاع غزة 250 ألف اشتراك منها 60 ألف اشتراك ممتنعة عن الدفع للشركة منذ العام 2000 وحتى اليوم، وهناك نحو 100 ألف مشترك ملتزمون بالدفع الشهري سواء بالسداد الآلي أو الدفع المسبق، فيما يلتزم 70 ألف اشتراك جزئي وبشكل متقطع بالدفع وخاصة عندما تقوم الشركة بفصل الخط عنهم.
وفي تفاصيل إضافية عن كمية الفاقد استعانت "الرسالة" بمعلومات صادرة عن سلطة الطاقة في رام الله والتي اشتكت خلالها من كمية الفاقد في قطاع غزة، مشيرة إلى أن الفاقد الطبيعي المتعارف عليه يتراوح بين 5 إلى 7% في أي شبكة إلا أن هناك نسبة فاقد كبيرة في كهرباء القطاع.
وأوضحت المعلومات أن فاتورة كهرباء الشركة وفقا لتعرفة الكهرباء الواردة للقطاع شهرياً يجب أن تكون 92 مليون شيقل إلا أنها لا تتجاوز 49 مليون شيكل فقط، وبذلك يكون الفاقد في قطاع غزة ما بين سرقات وتعديات على الخطوط بدون اشتراكات يتجاوز نسبة 40%، وهذا يعني أن ثلث كهرباء قطاع غزة تذهب للسرقات والتعديات.
وشددت على ضرورة ضبط هذا الفاقد وإعادته للوضع الطبيعي بالإضافة إلى تحسين الجباية لتوفير الضمانات كل ذلك من شأنه إنهاء الأزمة.
"الرسالة" تواصلت مع سلطة الطاقة في غزة للحديث في القضية إلا أنها أحالت القضية لشركة التوزيع كونها المسؤول المباشر عن الأمر.
الشركة خفضت الفاقد
في المقابل تؤكد شركة توزيع الكهرباء في القطاع أنها استطاعت تقليل نسبة الفاقد من 40% إلى 22%، مبينة أن الجزء الأكبر منها هو فاقد أسود ناتج عن السرقات.
وبينت الشركة على لسان مدير العلاقات العامة والإعلام فيها محمد ثابت أن الاحتلال يساهم في بقاء جزء من الفاقد الأبيض الطبيعي بسبب منعه دخول الكثير من المواد اللازمة لإعادة تأهيل الشبكات بالشكل المطلوب بحجة استخدامها في أغراض أخرى.
ولفت إلى أن الحرب الأخيرة التي تعرض لها القطاع أدت إلى تدمير مناطق واسعة بما فيها البنية التحتية للكهرباء، مما اضطر الشركة لإعادة تأهيلها بنظام "الترقيع" واستخدام المواد القديمة بسبب ضعف الإمكانيات ومنع دخول الكثير من المستلزمات، مشيرا إلى أن الاحتلال استهدف مخازن الشركة وتسبب لها بخسائر قدرت بــ45 مليون دولار.
وأقر ثابت بوجود شبكات قديمة ومهترئة لكن الشركة تحتاج دعما خارجيا لإعادة تأهيلها، موضحا أنهم أنجزوا عددا من المشاريع في عدة مناطق واقعة شرق خانيونس من خلال وصلها بشبكات جديدة. ولفت إلى أن الشركة تطمح إلى إعادة ترميم مناطق أخرى لتقليل الفاقد.
شركة التوزيع: قللنا نسبة الفاقد من 40% إلى 20% والاحتلال يفرض عراقيل
إلا أن المعاناة الحقيقية والأزمة بالنسبة لشركة توزيع الكهرباء تكمن في السرقات والتعدي على الشبكات والخطوط القلابة والتلاعب في عدادات الكهرباء، فيما يؤثر موضوع تمديد خطوط كهرباء من المولدات في الأحياء على جودة وصول التيار للكهربائي وأحيانا يؤدي لاحتراق في الكوابل بحسب ثابت، خاصة أنها تستخدم نفس شبكة الكهرباء العامة.
ويعتبر مسؤول العلاقات العامة أن الفاقد غير المحسوب بشكل دقيق هو تحد كبير يواجه الشركة خاصة أن الظاهرة قديمة وتسبق تأسيس الشركة، مؤكدا أنهم يجرون حملات ضبط وتفتيش مستمرة كما أن لديهم قضايا مرفوعة في المحاكم ضد المواطنين المخالفين، لاسيما أولئك الذين يلجؤون إلى بيع التيار لجيرانهم دون أن يدفعوا ثمن فواتيرهم للشركة.
وقدر ثابت الفاقد بشقيه ب 21% الجزء الأكبر منه بسبب السرقات، موضحا أن الكثير منها غير ظاهرة لأنها عبارة عن كوابل أرضية.
وأشار إلى أن ملاحقة ومتابعة السرقات مسؤولية الجميع لأنها تعود بالضرر على كل المواطنين وتتسبب بحرائق وحوادث عديدة.
يحتاج لحسن إدارة
العجز في الكهرباء دفعنا للحديث مع المختص في الشأن الاقتصادي والمتابع لأزمة الكهرباء الدكتور ماهر الطباع الذي قال إن شركة التوزيع غيرت نهجها وزادت نسبة التحصيل بنسبة 60% من خلال عدادات الدفع المسبق والدفع الآلي وبالتالي لم تضف إلى القائمة غير ملتزمين جدد.
إلا أن الطباع رأى أن معالجة السرقات تحتاج للمزيد من الجهود والرقابة خاصة أنها تعالج في مناطق أكثر من أخرى، معتبرا أن ملف الكهرباء يدار بشكل "سيء" كمنظومة متكاملة، على حد وصفه.
ودلل الطباع على كلامه بما حدث بشأن المدن السكنية الجديدة حيث من الخطأ تحميلها على الشبكات الموجودة، معتقدا أن الإدارة السليمة كانت تستوجب الحاقها بمحطة طاقة شمسية مستقلة في ظل مبالغ طائلة تدفع للمشروع فزيادة محطة طاقة شمسية لن يؤثر بالنهاية على تكاليف مشروع متكامل قائلاً: "كان الأولى تنزيل أحمال عن الشبكة الرديئة وليس الزيادة عليها".
ولم ينكر الطباع المعيقات التي يتسبب بها الاحتلال وتعرقل إعادة تأهيل الشبكات إلا أنه يؤكد أن الغزيين صرفوا مبالغ تقدر بمليار ونصف دولار لإيجاد بدائل طاقة خلال العشر سنوات الأخيرة، وهذا المبلغ كفيل بإيجاد عشرات الحلول لأزمة الكهرباء المستمرة.
ووفقاً للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان فإن 130 شخصاً قضوا بسبب البحث عن مصادر بديلة للكهرباء، فيما يتحمل المواطنون تكلفة مالية تصل غالبا إلى 3 أضعاف ما كانوا يدفعونه قبل الانقسام السياسي، ورغم ذلك لا يحصلون على ربع الطاقة الكهربائية المطلوبة.
على ضوء ما تقدم، ورغم العلم أن الاحتلال والسلطة يتسببان في الجزء الأكبر من المسؤولية عن أزمة الكهرباء الحالية إلا أن الجهات المسؤولة في غزة يقع على عاتقها الحزم والتفتيش الدوري وتقليل كمية الفاقد المرتفعة التي تصل إلى 30% ويمكن في حال معالجتها أن تزيد ساعات وصول التيار الكهربائي للمنازل أو استقرار الجدول في أسوأ الأحوال