تتقدم الشعوب المحتلة في غمار معركة التحرير الطويلة، وهي تدرك أن أثماناً باهضه ستدفعها بين يدي حريتها الموعودة. خذ مثالاً من تلك الشعوب، وتحدث عن الشعب الفلسطيني، الذي يتوزع أبناؤه على قوافل الشهداء والأسرى والجرحى والأرامل والثكالى واليتامى، وكلهم يقدمون أنفسَ ما يملكون بهمة الشباب، ورضى المؤمنين بالله، الواثقين بنصره القريب.
عكازان "وكلاشنكوف" على الكتف، تلك صورة مطبوعة في أذهان الناس، فكم رأينا من مجاهد جريح، يرتدي البدلة الكاكي، وقناعاً يخفي به وجهه المشرق، ويقف مثل زيتونة عاشت لألف عام، يغرز عكازيه في الأرض العنيدة الثائرة، وعلى كتفه "كلاشنكوف" يكمل به المشوار الطويل.
إنه الإنسان الفلسطيني الذي تفوق على نفسه، وحقق انتصاراً مضاعفاً، حين انتصر على أعدائه، بعد أن قاتلهم من مسافة الصفر، ثم انتصر على أوجاعه الرهيبة، وبعدها على "إعاقته" الدائمة؛ مع العلم أن مصطلح "المعاقين" أو "ذوي الاحتياجات الخاصة" ليس مناسباً لمن عاش سليماً قبل الحرب، وعاد بطلاً بعدها!
الجرحى الفلسطينيون يتألقون في يومهم الخالد 13/3، وقصة هذا اليوم تحكيها أشلاؤهم، وأجاعهم وإصرارهم على المضي قدماً في معركة الحياة القاسية. لسنا هنا كي نسجل إعجابنا بهم، فلقد استحوذوا على كل المعاني النبيلة التي يستحقها إنسان قاتل باستبسال، وعندما فقد جزءاً من جسمه الطاهر، قال: "لقد سبقني إلى الجنة"!.لقد جئنا هنا، إلى يومكم الذي اخترتم توقيته بعناية بارعة، فكان في أخصب وقت من السنة، حيث ترتدي الأرض زينتها، وتفتح حقول الليمون ذراعيها لكم حتى تعانوا أريجها الأخاذ. يأتي يومكم في الربيع من كل عام، ونأتي معه كي لا يفوتنا شرف المشاركة في يوم تعطر بدمائكم.
في أدبيات الجرحى ما يستحق التوقف ملياً، فعند حديثك معهم، تذّكر أنك تخاطب شهيداً حياً فقد بعضاً من جسمه، وهو/الجريح ينتظر أن يلحق أطرافه المبتورة أو عينه الثاقبة كالصقر. ومن أدبياتهم، قصص النجاح المبهرة التي يسجلوها في مختلف مجالات الحياة، فهم يسيرون بخطى ثابتة، ويراكمون النجاح تلو الآخر بهمةٍ مقاتلة!
ومن أدبياتهم، أنهم يشتاقون للعودة إلى الجهاد في سبيل الله، والإصرار العجيب على العطاء في درب المجاهدين، والحفاظ على جنديتهم الرائعة، رغم كل ما عانوه من إصابة وفقدان. فأية عبقرية تلك أيها الأبطال، وأي شموخ في وجه الألم أيها الفرسان الأشداء؟!
ومن أهم أدبياتهم أنهم أصبحوا فخراً يتطلع إليه الناس جميعاً، فلا يجد الجريح صعوبة في الحصول على رفيقة دربه، وشريكة حياته؛ لأنه الفارس الذي تحلم به كل فناة ناضجة، تدرك ماهية الفروسية الحقيقة.
إنهم يبهروننا بصمودهم، رغم قلة المؤسسات التي تهتم بقضيتهم، ونضوب موارد وإمكانيات تلك المؤسسات. هؤلاء يستحقون أن يعيشوا حياة كريمة، لا يتسولون من أحد، ولا يطوفون على الجمعيات من أجل توفير المساعدات المالية أو العينية، بل علينا أن نقدرهم بأفضل ما يقدر الشعب جيشه الذي يحميه، ونكون مثالاً للوفاء، مثلما كانوا مثالاً للعطاء الكبير.
لو كانت القيادة الفلسطينية تؤمن أننا لا نزال في مرحلة التحرير، التي تحتاج إلى مزيد من المقاتلين والتضحيات لخصّصت للجرحى صندوقاً، أو هيئةً تعنى بشؤونهم، وابتعدت عن التمييز الذي يحدث في التعامل معهم. فليس مقبولاً، بل من المعيب أن يحرم الجريح المقاوم من راتب كريم -فقط- لأنه مقاوم يتبنى خيار الكفاح المسلح الذي ترفضه السلطة وتحارب من يتبناه!
إن مجتمعنا يحمل الجرحى وساماً على صدره، كيف لا؟ وهم الذين دافعوا عن الوطن، واختلطت أشلاؤهم بترابه المقدس، فأصبحوا أكثر عشقاً له، وأصبحنا أكثر تمسكاً به وبهم!