سكونٌ داخل المركبة العمومي صفراء اللون، وفتاةٌ في العشرين من العُمر استقلتها لتقلّها إلى جامعتها في غزة. وبعد مسافاتٍ قليلة من خط سير المركبة، بدأ السائق بتعديل مرآة سيارته، ويرمق الطالبة (سناء. ن) بنظراتٍ تشي بخبث النوايا.
"صعدتُ السيارة وأصبح صاحبها يراودني بنظراته، فأدرت وجهي، إلّا أنّه لم يكف عن ذلك، وشغّل أغنيةً عن الحب، ومدلولاته". تقول سناء.
وتضيف الفتاة القاطنة شمال القطاع أنّ الحالة غالبًا ما تتكرر معها، معقبة "أشعر باستحقار تلك النظرات، وتمنيت لو أنّ مركباتٍ خاصة بالنساء تقلهن إلى مرادهن".
هذه الحكاية ليست الوحيدة، رجعت سناء بذاكرتها إلى حادثة أخرى، فتقول "قبل أسبوعين صعدت سيارة ونشب شجار بين السائق وزميله بسبب تجاوزات أحدهما، وشتم صاحب المركبة السائق الآخر وقذفه بكلامٍ رذيل يمس عرضه دون مراعاةٍ للركاب".
ما حدث لسناء يعد حكاية واحدة من بين عشرات الروايات التي استمعنا إليها لفتيات وقعن ضحية هذا التحرش اللفظي في قطاع غزة، الأمر الذي دفعنا للوقوف على أسباب هذه الظاهرة ومحاولة معالجتها.
نسبة عالية
وحاولت "الرسالة" الوصول إلى دراساتٍ واحصائيات تبيّن النسبة الحقيقية لهذه القضية، إلّا أن خلو المراكز المعنية دفع باتجاه اجراء دراسة علمية شملت (200) عينة عشوائية على جامعتي "الأقصى والإسلامية" بغزة للتعرف على آراء الطالبات حول هذا الموضوع.
دراسة "الرسالة": 92% من طالبات الجامعة يتعرضّن له
الدراسة أظهرت أنّ (92%) من الطالبات يتعرضّن للتحرش اللفظي سواءً أثناء ذهابهن للجامعة، أو عودتهن منها، أو حتى خلال ممارسة حياتهن العادية.
ورُغم هذه النسبة المرتفعة إلّا أنّ قانون العقوبات الفلسطيني، في مادته (74) لسنة 1936 المطبق في غزة، تعرض للتحرش في مادة واحدة فقط (167) وتحدث عن "التشويق"، دون مادة صريحة تجرّم هذا الفعل.
وعدّ القانون "التشويق" على أنّه "أمور مخلة بالحياء بقول أو إيماء"، ومن تصدر عنه يعتبر أنه ارتكب جنحة ويعاقب بالحبس مدة شهر واحد، أو بغرامة قدرها 5 جنيهات". وتعادل اليوم (500 شيكل) بالعملة المتداولة في غزة.
ويعد التحرش اللفظي "هو كل ما صدر عن الشخص من ألفاظ تؤثر في نفس الآخر، وتخدش حياءه، أو ألفاظ الغزل للجنس الآخر، أو الألفاظ (السوقية) التي يرددها الشباب أمام الفتيات دون مراعاةٍ لهن". وفق مختصون في علم النفس.
ثمة دراسات أجريت حول العنف ضد المرأة، احداها للباحثة هداية شمعون لعام (2009) تحت عنوان " العنف تجاه المرأة في المحافظات الجنوبية"، بيّنت خلالها أنّ واحدة من كل ثلاث نساء تتعرض للعنف النفسي والإيذاء اللفظي بما في ذلك السب والتحقير، وواحدة من كل عشر نساء تتعرض للعنف والإيذاء الاجتماعي.
وتشعر الطالبة في جامعة الأقصى (مريم.ع) بالخوف الشديد من عيونِ الشباب التي تلاحقها أثناء ذهابها وإيابها للجامعة. تقول "عيونهم لا ترحم، ولا يحترمون الفتاة إن كانت متبرجة أو منقبة". مرجعةً ذلك لغياب الرادع الحقيقي.
وتضيف الفتاة مريم "بعض الأوقات لا يستكفي الشاب بالنظرة، ويستزيد برمي كلمات الغزل غير مفهومة المعنى على الفتاة"، وتشير إلى أنّها تتعرض باستمرار لاستفزازاتٍ شبابية ترد عليها بالصمت.
الأمر لم يتوقف على "اللفظ" بل تعداه لمحاولات تصل حد التحرش الفعلي، طبقًا لشهادات رصدتها "الرسالة"، وأكدتها عينة الدراسة.
ومن بين الروايات التي استمعنا إليها، هي قصة الفتاة (نسرين. ص) في غزة، التي كانت تتعرض للتحرش يوميا من شاب كان ينتظرها يوميا لحظة خروجها من الجامعة، ومع كل مرةٍ تسرع الخطى لتجاوزه إلّا أنّه يهرول ليلقي عليها كلمات الغزل.
تقول نسرين، "كثيرا ما يسمعني كلمات مثل - منورة يا مزة، مشتاقلك، البسي الطرحة الصفرة لأنّها حلوة عليكي، يسعدلي مشيتك شو ناعمة"، وتشير إلى أنّها لا تعيره أيّ أهمية.
وتضيف "دومًا أقابله بالصمت خوفًا من ردة فعل الأهل، وبعض الأوقات ألجأ لإخبار صديقتي التي تتعرض لذات المشكلة، لكنّ الشاب كثيرا ما يتخطى المعاكسات ويصطدم بي، أو يخبط بيده على جسدي ويكمل سيره".
نسرين وصديقتها ليستا الوحيدتين اللتين وقعتا فريسة لهذا الفعل، حيث أشارت الدراسة التي أجريناها إلى أن (92%) من الفتيات اللواتي تعرضن للمعاكسات يلجأن للصمت كخيارٍ أساسي، و(49.5%) منهن لا يخبرن أحدًا بتعرضهن لذلك.
خشية الفضيحة
وفي ضوء ما جرى رصده، لم ينف رئيس نيابة غزة الجزئية نهاد الرملاوي، وجود ظاهرة "التحرش اللفظي" بغزة، خاصة من فئة المراهقين.
النيابة العامة: إلغاء بعض القضايا لتخوف الأهل على سمعة بناتهم
وأشار الرملاوي إلى أنّ الفتيات بطبيعتهن يخشين تقديم شكاوى إلى مراكز الشرطة أو النيابة، خاصة أن الأمر يتطلب شاهدًا على ذلك، وقال "بعض الشكاوى تصل، لكن الأهل يتنازلون عنها خوفًا من وقوف ابنتهم في المحكمة، أو المناداة باسمها كشاهدة".
وأوضح أنّ شكاوى من هذا النوع -لم يحدد حجمها- وصلت النيابة وجرت معاقبة مقترفي التحرش اللفظي، وفق القانون المعمول به والذي يتحدث نصه عن (تشويق) الفتاة من خلال أفعال أو أقوال، بحيث يُحكم الجاني بجنحة لا تتجاوز الـ(3 سنوات)، وتطبق عقوبته فعليًا بالسجن لشهر أو غرامة مالية قدرها 5 جنيهات-أو ما يعادلها 500 شيكل بالعملة المتداولة في غزة-.
"وعلى ضوء قصور القانون وعدم تلبيته الحاجة" وفق الرملاوي، فقد طالب بتعديله بحيث يضمن تشديد العقوبات في مثل هذه القضايا، وتابع "نطالب التشريعي بأخذ دوره وإصدار عقوبات شديدة بحق مرتكبي هذه الجرائم، والتي يتضح أنّ عقوباتها بسيطة في مواد القانون المعمول به حاليًا".
مشكلة قانونية
في المقابل، المجلس التشريعي نفى أن تكون المشكلة متعلقة بوجود نص قانوني صريح بديل يحمي الأنثى، وجاء على لسان النائب هدى نعيم، "إنّ الخلل في ثقافة المجتمع" كما قالت.
التشريعي: لا يوجد نص قانوني صريح والمشكلة أيضا تتعلق بثقافة مجتمع
وأضافت نعيم "لدينا مشكلة بعدم وجود نص قانوني صريح، لكنّها ليست السبب الرئيسي في الخلل، فالمشكلة ثقافية أكثر منه قانونية، ولو وصلت الحالة للقاضي فيستعين بالمواد القانونية التي بين يديه، ويعتمد عليها باتخاذ الإجراءات اللازمة".
ورأت النائب في التشريعي أنّ الخلل يكمن في ثقافة المجتمع الذي يغرس الرهبة في نفوس أبنائه، ما يجعلهم متخوفين من تقديم شكاوى ضد مرتكبي الجرائم بحقهم، وقالت "يخشون اللجوء للقضاء، وحتى نسبة قليلة منهم تلجأ للعرف ورجال الإصلاح، أما الغالبية فتميل إلى الصمت على اعتبار أن مجرد الشكوى ستلحق بابنتهم سمعة سيئة".
وانتقدت ثقافة المجتمع بأنّه يصب جام اتهاماته على الفتاة، ويتهمها بالعيب والنقصان، قائلة "البنت في هذه الثقافة المغروسة ستلام بأنّها لو احتشمت لما تعرضت للتحرش سواءً اللفظي أو الجسدي، لأنّ المجتمع ينظر لها على أنّها مذنبة حتى ولو كانت ضحية".
وأكدت أنّ النظرة المجتمعية تجبر الفتاة على الصمت وعدم إخبار أحد بذلك، حتى وإن تعرضت لأكثر من التحرش اللفظي، متسائلة "ما قيمة الموضوع إن وجدت مواد صريحة، ولم تجد من يتوجه للشكوى؟".
ووفقا لما جاء في الدراسة التي أجرتها "الرسالة "؛ فإن (25%) يلجأن لإخبار الأهل، وهذا يعكس النظرة المجتمعية للفتاة، لهذا تفضل دس الرأس في التراب على أن تقف أمام حقها في الدفاع عن نفسها.
وعلى ضوء الدراسة دعت النائب "نعيم" الفتاة باللجوء لإخبار الأهل لاتخاذ الإجراءات اللازمة والتبليغ عن المجرمين، و"عدم التستر عليهم بحجة الخوف على سمعة الفتاة لأنّ ذلك يهضم حق جميع البنات". وفق قولها.
وأوضحت النائب أنّه جرى طرح قانون عقوبات جديد، ما زال قيد النقاش، ولم يتم تقديمه للقراءة "لأنه يمس جميع تفاصيل حياة الناس ولا بد من توافق بين كافة أطياف المجتمع في نصوصه.. لأننا لا نشرع للونٍ واحد دون غيره". وفق نعيم.
وتضمن قانون العقوبات الجديد الذي ينتظر قراءته في احدى جلسات التشريعي، ثلاث مواد، تتعلق بالجريمة، موضع التحقيق، جاءت أولها في المادة رقم (243) ونصت على: "يعد مرتكبًا لجريمة الأفعال الفاحشة من يأتي فعلا مخلا بالحياء لدى شخص آخر أو يأتي ممارسة جنسية مع شخص آخر، لا تبلغ درجة الزنا أو اللواط، ويعاقب بالجلد بما لا يبلغ أربعين جلدة كما تجوز معاقبته بالحبس مدة لا تجاوز سنة أو بالغرامة بما لا يجاوز ألفي دينار أردني".
وتم وضع مادة مكمّلة لما سبقها رقمها (244)، وتنص في بندها الأوّل أنّه "من يأتي في مكان عام فعلًا أو سلوكا فاضحا أو مخلا بالآداب العامة أو يتزين بزي فاضح أو مخل بالآداب العامة يسبب مضايقة للشعور العام، يعاقب بالجلد بما لا يبلغ أربعين جلدة أو بالغرامة مائة دينار أردني أو بالعقوبتين معاً، موضحةً مقصدها في نصها الثاني الذي يقول "يعد الفعل مخلا بالآداب العامة اذا كان في معيار الدين الذي يعتنقه الفاعل أو عرف البلد الذي يقع فيه الفعل".
إعادة التنشئة
المسألة ليست فقط متعلقة بالقانون بقدر ما تتعلق أيضا بالتنشئة، كما يقول المختصون ومنهم الاخصائي النفسي إسماعيل أبو ركاب، الذي رأى أنّ السبب في وجود "تحرّش لفظي" بغزة بهذه النسبة عائد لأسباب على رأسها "غزو الأفلام الأجنبية والمدبلجة للبيوت وعقول الشباب"، معقبًا على ذلك بقوله "ذلك يتيح للشاب تربة خصبة لتطبيق ما رآه على أرض الواقع طالما داخل الأسرة لا يوجد رادع".
وقال أبو ركاب "الغزل وإلقاء الكلمات النابية بلا رقابة، أو في ظل صمت الأهل على ذلك يجعل تحرش الشباب لفظيا بالفتيات أمرا طبيعيا بالنسبة لهم".
وأوضح أنّ أكثر المخالفات في هذا الأمر تقع من الشباب، مرجعا ذلك إلى "وجود إفرازات من بعض الغدد في مرحلة المراهقة تدفعهم للاتجاه نحو هذا السلوك إن لم يجدوا ناصحًا أو رادعًا".
ويتطابق كلام الأخصائي أبو ركاب مع نتائج العينة العشوائية التي قمنا باستطلاعها، إذ تشير إلى أنّ أكثر الفئات العمرية التي تتحرش لفظيًا بالفتيات هم الشباب، وأوضحت النتائج أنّ (89%) من الفتيات تعرضن للمعاكسة من طرف شباب دون الـ30 عامًا.
أخصائي نفسي: فتيات يتجنبن مصارحة الأهل خوفا منهم
أمّا عن لجوء الفتيات للصمت حال تعرضهن للمعاكسات؛ أعاد أبو ركاب ذلك إلى انعدام المصاحبة بين الأهل وبناتهم، موضحًا أن الخوف يسيطر عليهن في هذه المرحلة، ويخشين الحديث مع أهلهن، "سواءً لتشددهم أو بسبب رخوتهم وتقبلهم لهذه الثقافة(..) نحن في تنشئتنا إمّا أبيض أو أسود، والوسط بنسبة لا تكاد تذكر". وفق قوله.
ولفت إلى أنّ بعض الفتيات يشعرن بطبيعة ألفاظ المعاكسات، خاصة إن كانت إطراءً للفتاة، خصوصا من فئة السائقين، محذرًا من تبادل الأحاديث معهم.
وأوضح أنّ السائق هو الشخص الأقرب احتكاكًا مع شرائح المجتمع ولا سيما الطالبات، و"هم أكثر الناس الذين يمكن لهم أن يتجرؤوا على الحديث مع الفتيات".
وتظهر دراسة "الرسالة" إلى أنّ (47%) من الفتيات اللواتي تعرضن للمعاكسات، كانت من شريحة "السائقين".
ودعا أبو ركاب الفتيات إلى الاحتشام في الملبس والانتباه إلى سلوكياتهم أمام الجنس الآخر، معقبًا "قد تدعو الطالبة عن غير قصد -بلباسها- السائق وضعاف النفوس إلى التحرش بها (لفظيًا أو جسديًا)، فهي تعطيهم رخصة بذلك عن جهالة".
ومن بين الحلول التي اقترحها ضحايا التحرش اللفظي- طالبات الجامعات المستطلعة آراؤهن- لمعالجة هذه الظاهرة، سن قانون صريح يعاقب على هذا الفعل ويجرّم مرتكبيه، ونشر الأمن بشكل أكبر خاصة في المناطق العامة، مثل الميناء، والبحر، والأسواق، وبالقرب من الجامعات في القطاع". مرجعات الأمر لكثرة الاختلاط بهذه الأماكن.
وأوصين بوضع لافتات إرشادية تجرّم هذا الفعل، وتأتي بالحجة والدليل، والمراقبة على فتح الأغاني في السيارات وخاصة العمومي وإصدار قانون يردع السائقين، وتدريب سائقات فتيات لتوصيل الطالبات، وإنشاء أسواق وحدائق خاصة بالنساء.
وبالنظر إلى نتائج التحقيق والتي أثبتت وجود نسبة "تحرش لفظي" عالية في غزة، فإن الأمر نذير خطر يوحي بكارثية هذه الظاهرة التي قد تهدم المجتمع الفلسطيني إن لم تتم معالجتها بأسرع وقت.