"الشكوى لغير الله مذلة".. لربما هذا تفسير الأنفاس الأخيرة التي ختم بها المريض محمد جابر ماضي وهو يتنهدها على سرير المرض، حين كان ينتظر فتح بوابة معبر رفح البري جنوب قطاع غزة للسفر وتلقى علاجه اللازم. صعدت روح محمد، أمام عيون أطفاله الأربعة الذين كانوا يلتفون حول ذلك السرير.
محمد "36عاما" من مدينة رفح أصيب بعد الحرب الثالثة بورم خبيث بالغدد الليمفاوية، ليخبره الأطباء أنه يجب السفر لخارج القطاع في أسرع وقت ممكن، ولكن إغلاق البوابة السوداء _ معبر رفح_ لعدة شهور حالت دون ذلك.
محمد أصبح الآن من قافلة شهداء الحصار الذين ارتقوا على أسرّة المرض؛ لأن في الجنوب بوابة مغلقة، وفي الشمال أيضا الحال كذلك.
في قطاع غزة آلاف المرضى حالهم كالمتوفي محمد وربما أقل، ينتظرون على أحر من الجمر شعاعا يخرج من هناك حيث الظلم والهوان على تلك البوابة.
تكور أطفاله الأربعة بجانب بعضهم، وراحوا يبكون وهم ينظرون إلى جثة والدهم النحيل، تقول الطفلة "إسراء" التي يزين رأسها طوقا أبيض بعد ما استجمعت قواها: "بدنا أبويا..". إلا أن بكاءها الشديد منعها من استكمال حديثها.
على مقربة من تلك الأجساد الصغيرة التي فقدت معيلها، يجلس شقيق المتوفي ذو البشرة القمحية، يمسح دمعته الجارفة بهدوء، ويوضح أنهم حاولوا الاستغناء عن معبر رفح والبحث عن طرق أخرى ، قائلا : " حاولنا توفير إجراءات تحويله للعلاج في الأراضي المحتلة لكنها باءت بالفشل؛ لعدم حيازته على هوية رسمية".
وحمّل الشاب الثلاثيني مصر والجهات المعنية المسئولية الكاملة عن وفاة شقيقه، مناديا على حكماء غزة والضفة المحتلة بمحاسبة من أهمل في حق أخيه.
كان محمد قبل مرضه المعيل الوحيد لعائلته المكونة من 12 فردا، علما أنه كان يرعى شقيقه المقعد ويدعى رامي الذي أصيب في العدوان الثاني على غزة.
يسند رامي نفسه بمساعدة أطفال المتوفي، ويقول بصوت متقطع: " راح الي كان يرعاني (..) لا أعلم كيف سأقضى حاجاتي بدونه".
حين دخل "مراسل الرسالة" إلى منزل محمد لمقابلة والده الستيني، لم يستطع الحديث أو التفوه بشيء، مكتفيا بحمل صورة ابنه متمتما.
وزارة الصحة وعلى لسان متحدثها الدكتور أشرف القدرة، طالبت الجهات المصرية بفتح معبر رفح في أسرع وقت؛ لشدة الأوضاع المأساوية التي طالت مئات المرضى في غزة.
وحمل القدرة الجمهورية المصرية المسئولية الكاملة عن روح الثلاثيني ماضي، قائلا: " إن استمر إغلاق المعبر سيزهق الكثير من أرواح أهالي غزة".
في الأثناء استنكر ماهر أبو صبحة مدير دائرة المعابر في غزة، استمرار هذا الإغلاق الذي وصفه بالغريب. وقال إن 90 ألف غزيّ يحتاجون السفر عبر معبر رفح البري؛ نتيجة إغلاقه منذ شهور عدة.
وبعد كل هذا التهميش لأهالي غزة المتعمد، من الطبيعي جدا أن تهرب روح محمد إلى خالقها وتشكو له همها، ويبقى التساؤل قائما "هل سيكون محمد الشهيد الأخير لاستمرار حصار أهالي القطاع وإغلاق المعابر؟".