قائد الطوفان قائد الطوفان

مقال: (أَلَحُّ فرض أن نقاوم من يكاد يستفزنا من الأرض)

( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا . سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) ( الإسراء : 76، 77 )

ليس مفاجئاً قرار الصهاينة بطرد سبعين ألفاً من الضفة الغربية، تحت ذرائع واهية؛ بل بتقديم كثير منهم للمحاكمة؛ بتهمة التسلل إلى الضفة؛ ليجدوا أنفسهم مكرهين على أن يلبثوا في السجن بضع سنين، مع ما يصاحب ذلك من الغرامة المالية التي تبلغ آلاف الشواقل، فقد دأب الصهاينة على تهجير الناس من ديارهم وأموالهم، منذ عام 1948م رغباً أو رهباً، لكن المفاجئ أن يظهر يوماً أن زبائن أوسلو قد شاركوا فيه، ذلك أن الذي يصادر حرية الشعب وإرادته بإبرام التنازلات للعدو دون الرجوع إلى أصحاب الحق، لا يستهجن منه بعد ذلك أيُّ شيءٍ، خاصة بعد التعاون الأمني مع اليهود إلى أبعد الحدود، وبعد التواطؤ في حرق قطاع غزة في عدوان الرصاص المصبوب، والقائمة طويلة.

ومن أجل أن نعرف من المستفيد من قرار اللجوء الجديد، لا بد من الوقوف على دوافعه وأهدافه، وعندئذ فصاحبُ القرار والشريك فيه هو صاحب المصلحة في تطبيقه.

ذهب الكثيرون إلى أنه مخطط تهجيرٍ؛ لتفريغ الضفة الغربية؛ حتى يتمكن الصهاينة من الاستمرار في رفع القواعد للمستوطنات، واستدراج الكثير من المستوطنين إليها، وإذا صَحَّ هذا كان مرجحاً لرأي القائلين بأن المرشحين للتهجير هم إلى السبعمائة ألف أقرب منهم إلى السبعين ألفاً المعلن عنهم، ولا يمثل هؤلاء إلا الوجبة الأولى على طريق تفريغ الضفة من أهلها، وتطويق البقية في كانتونات معزولة بالحواجز العسكرية، ومهددة بالتوغلات اليومية، وهذه هي صورة الدولة التي يُبَشِّرُ بها (سلام فياض) الذي لا يمثل إلا نفسه في المجلس التشريعي.

بينما ذهب آخرون في تهويد القدس، وهدم البيوت، وتشريد أهلها، والسعي الحثيث لهدم المسجد الأقصى، وإقامة الهيكل مكانه، وهؤلاء يستندون إلى سياسة الاحتلال في صناعة أزمة؛ للتغطية على أزمات سابقة، وللتلهية بنسيان القديم، والانشغال بالمصيبة الطارئة.

غير أن المرجَّحَ عندي أن هذا يجيء في إطار الاستماتة لمنع اندلاع انتفاضة في الضفة الغربية؛ ذلك أن التحركات الأخيرة في الخليل وغيرها من المدن، قد شارك فيها الكثيرون من ذوي الأصول الغَزَّيَّة، ولو بمجرد الولادة، كما أن عمادها هم الذين لا زالوا عالقين؛ حيث قَدِمُوا بتصاريح زيارة، ولم يحصلوا على المواطنة بعد، فهم محرومون من الحركة.

ومَنْ يدري فلعل ذلك لَوْنٌ جديد من وجوه الحصار لقطاع غزة، إذْ إننا نعاني من شُحِّ الموارد، وضيق المساكن، وازدحام السكان، فإذا زُجَّ إلينا بعشرات الألوف ازددنا اختناقاً إلى ضيقنا، وربما استحال أمرهم إلى الإقامة في الخيام؛ أسوةً بالذين تهدمتْ بيوتهم في الحرب الأخيرة، أو التوغلات المتتالية، ولازالوا يقيمون في خيام لا تقيهم من حَرِّ أو قُرٍّ، ولا تصلح أكناناً للدواجن أو بهيمة الأنعام.

أيّاً كان السبب؛ فإن للسلطة مصلحة حقيقيةً في خنق غزة بمن فيها، كما أنها مكلفة بكبح جماح الاحتجاجات في الضفة الغربية؛ لئلا تخرج عن السيطرة، وإنَّ نموذج مسيرة الجمعة في نعلين وبلعين لم يعد مقبولاً، ولا بد أن تقوم السلطة بقمعه، ولا أظنها تتوانى؛ حتى لا تَظْهَرَ المزيد من ملفات الضابط فهمي شبانة.

إن أقصى ما تتغنَّى به السلطة أن تُرْسِلَ بِكُتُبِ الاحتجاج، والمطالبة بالتحرك العاجل إلى (جورج ميتشل) المبعوث الأمريكي، و(مارك أوت) المبعوث، وممثل السكرتير العام للأمم المتحدة في أرضنا المحتلة (روبرت سيري)، والمبعوث الروسي لعملية السلام (الكسندر سلطانوف)، ثم للسفراء والقناصل التابعين للاتحاد الأوروبي، وربما ازداد بعضهم شجاعة فطالب الجامعة العربية بقمة طارئة، وكان الأولى أن يقرأوا عليها سورة (الفاتحة)، كما نقرأ سورة (يس) على منظمة التحرير.

أما آية الإسراء فقد سُبقت بآيةٍ تتحدث عن أن المشركين قد قاربوا أن يحملوا نبيَّنا عليه الصلاة والسلام على التنازل عن بعض ما أنزل الله إليه، ولو فعل ذلك لاتخذوه خليلاً، ولخلعوا عليه من الألقاب الخادعة حتى يرضى، كما سُمِّيَ بعضهم اليوم بكبير المفاوضين، وسمي آخرون برجال السلام، أو بالمعتدلين، أو الواقعيين، وآخر تقليعة أن يوصف وثنُ الحكومة هناك (بابن غوريون الجديد)، ولولا أن الله جل جلاله قد ثَبَّتَ نبيَّه صلى الله عليه وسلم، فلم يَفْتَرِ على الله جلَّ وعلا غير ما أوحى إليه، لركن إليهم شيئاً قليلاً، وهو التنازل عن بعض الثوابت، ولو واحداً، ولأطاعهم في بعض الأمر، ولو داهنهم في ذلك لأذاقه الله الجبار ضِعْفَ العقاب في الحياة، وَشعْفَ العذاب في الممات، ولن يجد له على الله نصيراً.

فلما لم يفلحوا في فتنته بترك بعض ما يُوحى إليه، أو يضيق صدره به؛ كان قرار الاستفزاز من الأرض لإخراجه منها، ولكن الله تبارك وتعالى قد صرفهم عن ذلك؛ لأنهم لو فعلوا لأخذتهم سنة الأولين في إهلاك أعداء المرسلين، غير أنه سبحانه قد علم أن أكثرهم سيدخلون في الإسلام، أو سيخرج من أصلابهم من يعبد الله، ولا يشرك به شيئاً، فلم يشأ أن يخرجوه، فأخرجه بأمره، ولعل في ذلك حكمةً أخرى، وهي نجاة النبيِّ عليه الصلاة والسلام من أن تلحق به مَعَرَّةُ الطرد من الديار، فيفتخر الكفرة بذلك، كما افتخر اليهود زوراً بادعاء قتل المسيح بن مريم رسولِ الله.

إن هذه السُّنة لم يفلت منها أحدٌ من المجرمين الأولين، وبالأخص فرعون وجنوده، عندما أراد أن يستفزَّ بني إسرائيل وسيدنا موسى من الأرض، فأغرقه الله، ومن معه جميعاً، كما في آخر سورة الإسراء، الآية (103).

إن الاستفزاز هنا هو القتل والاستئصال؛ لأن النصَّ لم يعلله بالإخراج من الأرض، كما في آية المقال؛ فإنَّ الاستفزاز أعمُّ من الإجلاء والتهجير، فيشمل القتل؛ إذْ إنه إخراج من الدنيا، والسلام عند الصهاينة سلام الأموات، كما صرح به (بيجن) المجحوم إن شاء الله.

إن الاستفزاز هو منهج الشياطين من الجن والإنس، فقد قال الله عز وجل لإبليس في نفس سورة الإسراء: " وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ .." الآية (64).

     ولا شك أن اليهود على رأس شياطين الإنس، ولكننا مستبشرون بأن قرار الإبعاد الأخير شهادة للسبعين ألفاً بأنهم لم يركنوا إلى الصهاينة شيئاً قليلاً؛ بالتنازل عن الثوابت، فاضطر الاحتلال إلى استفزازهم من الأرض قتلاً وطرداً، ولكن البشارة بعدم لُبْثِهم من بعدهم إلا قليلاً، وأن ذلك من قوانين الله في المرسلين، يبعث على الارتياح بأن الفريقين يحفرون قبورهم بأيديهم، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون.

     فإذا انضاف إلى ذلك كثير من المبشرات في الواقع؛ من مثل إجماع فصائل المقاومة على مقاومة هذا القرار، وغيره من صور القمع والعدوان، باستثناء حركة فتح، وبعض المُقْتاتِينَ على فضلات موائدها، ومن مثل تهديد تركيا بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي عند العدوان علينا، وغير ذلك، إذا انضاف كل أولئك إلى الشهادة السابقة، والبشارة التابعة لها، أدركنا أن المستقبل لهذا الدين، ولأتباع المرسلين، وإننا لنرجو أن نكون منهم.

وما ذلك على الله بعزيز

 

 

 

البث المباشر