قائد الطوفان قائد الطوفان

بايع على يديه العديد من قادة حماس

صقر.. قائد اعتكف في محراب الدعوة

الزميل محمد ابو زايدة مع المؤسس صقر
الزميل محمد ابو زايدة مع المؤسس صقر

الرسالة نت- محمد ابو زايدة

ربما تتساءل عن كيفية إجراء حوار صحفي مع رجل بلغ الثمانين ونيف من عمره، ناهيك عن فقدانه السمع بشكل كلي، ولا يرى إلا بإحدى "حبيبتيه"، إضافة إلى عجزه الجلوس على الكرسي لفترات طويلة، وهو ما كان نقطة التحدي حول إمكانية استخلاص مادة بعد الانتهاء من اللقاء مع الشيخ خضر صقر.

وصلنا إلى منزل الشيخ خضر بمدينة خانيونس جنوب القطاع، ورغم شهرته إلا أنه لم يكن معلومًا بمنطقة سكناه، نظرا لحداثة وجوده في المنطقة بعد غربة استمرت عقودًا من الزمن، قضاها "مربّيًا لقيادات في حماس، وقياديا في الإخوان المسلمين، ومؤسس الجماعة في الكويت، ومنشئ التنظيم النسائي في السودان".، واتخذ خضر من قاعدة "علانية الدعوة.. وسرية التنظيم" نهجا سار عليه طيلة سنوات عمره.

صمتٌ داخل منزل العجوز، إلا أن طرقات عكازه كسرت رهبة السكون، وفور رؤيتنا ابتسم مرحبًا، ثم بالأحضان أخذنا، وهي عادة يتخذها مع الشبان، "لما تغرسه من أثر في نفوسهم".

لم نأخذ يومًا دورة في الحديث بلغة الإشارة، وهو ما كان عائقًا أمامنا في كيفية التواصل مع هذا الرجل، والوصول إلى داخل قلبه ليفيض بما خبأه لسنوات، وخشي البوح به وقتها.. "لأن البوح يضر ولا ينفع". لكن ما أدهشنا هو قدرته على قراءة السؤال أثناء كتابته على لوح كتابي، خصصته العائلة للتواصل من خلاله.

صاحب الذاكرة "الحديدية"، لا يَذكُر شخصًا غرس ذكرى في حياته، إلا وحفظ اسمه ثلاثيًا، وبلدته الأصلية التي هجّر منها إن كان فلسطينيًا، ومكان سكناه واسم كبار عائلته إن كان من ضمن علاقاته التي نسجها خارج فلسطين.

تنهيدة مصحوبة "بالآآآه" أخرجها فور حديثنا معه، وطلبنا استرجاعه لذكرياتٍ سالفة، لنأخذ درسًا أو عبرة أو حكمة تعيننا على مواصلة الطريق، فأخبرنا عن نشأته في حواكير بلدة السوافير، ورؤيته بأم عينيه "إجرام العصابات الصهيونية"، أثناء عقرها بطون النساء الحوامل، وحمله أعباء الحياة مذ كان في الثانية عشرة من عمره.

 الهجرة

"هُجرنا من السوافير بعد قمع المواطنين، ثم توالت هجرتنا من بلدة لأخرى حتى وصلنا لمدينة خانيونس، وأقمنا في بيتٍ متواضع"، يقول الحاج خضر، ويضيف متحسرا "خطأنا الوحيد والقاتل أننا هاجرنا، فكان الأجدر أن نبقى حتى لو ذبحنا عن بكرة أبينا".

أكمل ضيف "الرسالة" دراسته الثانوية في بلدته خانيونس، ثم حصل على دبلوم معهد المعلمين، وبفصاحة المُدرسين التي لم تترك حديثنا برهة، أخبرنا أنّه نجح في مسابقة أجرتها السلطات المصرية لتوظيف المدرسين، وعُيّن مدرسًا نهاية خمسينيات القرن المنصرم.

ضاقت الأرض بأهلها من قلّة رواتب الموظفين، وملاحقة السلطات المصرية للفلسطينيين، فقرر السفر بعد خدمة طلبة العلم في بلاده لخمس سنوات، وسافر لتحسين دخل أسرته، حتى وصل به المطاف إلى الكويت، وتعاقد مع إحدى مدارسها قبل خمسين عامًا من الآن.

يسترجع الحاج خضر ذكريات الزمن الجميل في جلساته المنفردة مع النفس، إلّا أننا استأذنا مشاركته، فروى لنا حكاية انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين في الكويت.

"نشأت في عائلة محافظة ومتدينة، وعندما وصلت الكويت لتعاقدي مع مدرسة أشغل فيها أستاذًا، وجدت نفسي أجالس المشايخ، وأعجبني فكرهم، فانضممت في بداية ستينات القرن الماضي إلى جماعة الاخوان، فكان نصف نهاري الأول للتعليم، ونصفه الآخر للدعوة". يقول الحاج خضر.

 التأسيس

التحق بداية عهده بإحدى "الأسر"، وهي مجموعة من أبناء التنظيم الواحد، في مسجدٍ بالكويت يتدارسون خلالها القرآن وعلومه، ثم رُشّح من قيادة الحركة بأن يقود "أسرة" وحيدة في منطقة منقطعة، واستمر نشاطه في التطوّر ونشر الدعوة.

تدرج صقر في الدعوة إلى أن أشرف على منطقة "خيطان، والفروانية، والوفا، والجهرة، والوفرة"، وتقدر مساحتها بـ(150كم).

حملٌ ثقيل على كاهل الحاج خضر، فقد وصل المنتسبون لجماعة الاخوان بعد توليه منصب المسؤول، (150 فردًا)، وكان من بينهم: "محمد نزال" -عضو المكتب السياسي لحماس-، وخالد مشعل، -رئيس المكتب السياسي لحماس-، وموسى أبو مرزوق، - نائب رئيس المكتب السياسي لحماس.

وللانتفاضة الأولى شامة عزة ظهرت على جبين كل فلسطيني، يقول الحاج خضر: "كان الكويتيون يسخرون من الفلسطيني، علمًا أن عددنا كان مماثلًا لهم ما يقرب (750 ألف نسمة)، ولكن بعد الانتفاضة، ومقارعة الشباب للاحتلال، صار الجميع يرفع القبعة احترامًا لنا".

 السودان

حمل صقر متاعه وتوجّه إلى السودان -وهي البلد الوحيد التي استقبلت الفلسطينيين-،  بعد 40 عامًا قضاها في الكويت بالدعوة تحت شعار: "علانية الدعوة وسرية التنظيم"، حتى زوجته لم تكن تعلم بانتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين.

فتحت السودان أبوابها للفلسطينيين، بعدما أوصدتها الكويت في وجههم عقب الحرب العراقية على الكويت، في بداية تسعينيات القرن الماضي.

وفي تلك الحقبة سخّر الشيخ خضر عمله لجمع التبرعات للفلسطينيين، وتحويلها للمطاردين في الخارج، وطلبة العلم، وذكر من بينهم "أحمد انصيو، وطلال نصار، ووليد البياع، وعبد الكريم الدهشان".

وتوالت زيارات مشعل إلى أستاذه الحاج خضر، وفي كل زيارة يطلب النصيحة. يخبرنا بأحد النصائح التي تلاها ضيفنا على مشعل يتقول له "ما يميزك أن كلامك هادئ ومتّزن، والبرميل الفاضي يصدر كركعة، أما المليان فيفيض ماء، وأحسبك مليئًا، فسر على ذات الطريق، واحذر من لحظة غدر".

علاقة صداقة بين الشيخ وطالبه، يعتبرها ضيفنا نتاج العمل الذي اتفق الجميع على انجازه في سبيل الدعوة، واتخذوا لذلك نهجًا يقول "اندفاع الشباب وحكمة الشيوخ"، لإعطاء العمل حقّه.

طلبت قيادة الاخوان من ضيفنا أن ينشئ التنظيم في السودان، فكان أوّل مبلغ يتم تحويله لأجل هذا الهدف هو (4000$).

علم الجميع بانتمائه للحركة بعد حضوره اجتماعا بين قيادة الحركة في السودان و20 شخصية من عدة دول، وكان أوّل تعقيب من السفارة الفلسطينية بعد تعريف خضر بنفسه، "لم يُحيّرنا طيلة سنوات عملنا سوى الشيخ خضر".

وبعد الجلسة بأشهر، زار الرئيس السوداني عمر البشير، مقر الحركة في السودان واستقبله الشيخ بالأحضان، وبعدها أصدر مرسومًا رئاسيًا أثناء جلسته ينص على "تلبية جميع طلبات الجالية الفلسطينية فورًا".

العجوز الثمانيني، ابتسم لنا بدماثة عندما طلبنا منه اخبارنا عن حكايته مع زوجته، ودعوته، فقال إنّه عوّدها على عدم سؤاله عن طبيعة عمله الجانبي، فمن حينها لم تسأله عن شيء.

اتّبع مبدأ "من الموجود جُود"، مع ضيوفه، فلم يذكر أنّه طلب منها أعباءً لضيوفه من "الاخوان"، وهم كذلك عندما تتبادل المجموعة الزيارات، وعقّب بقوله "حتى لا نرهق زوجاتنا كنا نخدم على أنفسنا بأنفسنا".

 توسيع الدعوة

قرر أن يوسّع رقعة عمله، فلجأ الحاج خضر إلى تشكيل تنظيم من النساء، وكان قراره أن يبدأ نواته بزوجته، وأخذت البيعة منه، وبدأت تتوسّع آفاق التنظيم في السودان، إلّا أنّ اعتراضًا داخليًا جاب المشروع، خشية على النساء من الملاحقة أثناء السفر، فارتأى أن يكون الأمر دعويًا، وتم تشكيل جلساتٍ يطلق عليها "جلسة الثلاثاء"، وكانت المسؤولة عن ذلك ابنته البكر "ايمان" وهي احدى بناته الأربعة وله مثلهن من الأبناء أغلبهم مازالوا خارج غزة.

وكانت للحاج خضر يد في تشكيل صندوق لطلبة العلم "الفقراء" من الجالية الفلسطينية، فعمل على توفير راتبٍ شهري لهم، وبناية سكنية تأويهم.

كان الإحراج كغيمة سوداء تحيط بنا أثناء سؤاله عن بصره الذي فقد ما نسبته 50% منه، وعن سمعه الذي فقده بشكل كلّي، فأخبرنا أنّ ذلك نتيجة خطأ طبي بالسودان، فقطع الطبيب المشرف على حالته، العصب السمعي، فلم يعد ضيفنا يسمع شيئًا، بالإضافة لفقدانه حاسة البصر بشكل كبير نتيجة خطأ طبي ألمّ به في سوريا.

حُبّه لتراب بلاده أجبره على العودة وهو في الـ(81) إلى غزة، فترك خلفه مسؤولياتٍ وأحمالا، ومكتبة ضخمة كوّنها طيلة عشرين عامًا، تبرّع بها لإحدى الجامعات ليستفيد منها طلبة العلم.

وبدمعة وداع تسللت خلسة من عين الحاج خضر، أنهت لقاءنا بقوله "والله لا أفقد الأمل بالصلاة في الأقصى والعودة إلى بلادي السوافير، وأدعو الله أن يبقيني على الخط الجهادي ولا أحيد".

البث المباشر