د. يونس الأسطل
( وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ* وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ* وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ* وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ( فاطر (19-22
لا تزال موجة الحرِّ التي تجتاح المنطقة فوق معدلها الطبيعي بدرجات، وهي مصحوبةٌ برطوبةٍ جعلت كثيراً من الناس قد ضاقت عليهم بيوتهم مهما رَحُبَتْ، وربما ضاقتْ عليهم أنفسهم، وظَنُّوا أن لا ملجأ من الله إلَّا إليه، ونرجو أن يتوب الله عليهم ليتوبوا؛ إن الله هو التواب الرحيم.
ومما زاد الحال ابتلاءً أن حكومة أبي مازن، ووزراءها الذين هم بمثابة موظفين لديه، لا زالوا يأكلون حقوق غزة أكلاً لمَّاً، ويحبون جباية المال حُبَّاً جَمَّاً، فلا يكرمون الموظفين، ولا يَحَضُّون على طعام المساكين؛ فضلاً عن أن يتواصوا بالصبر، ويتواصوا بالمرحمة، وكأنهم رضوا أن يكونوا من أصحاب المشأمة، فلا اقتحموا العقبة، فَفَكُّوا رقاب الأسرى، ولا أطعموا في يومٍ ذي مَسْغَبةٍ يتيماً ذا مقربة، ولا مسكيناً ذا متربة.
ومن أسوأ تجليات حصارهم لغزة أنهم قد وَرَّطُوها في شركة توليد الكهرباء التي لا تكاد تنتج سُدُسَ حاجة القطاع، وبستة أضعاف تكلفة الكهرباء؛ لو جرى ربط غزة بشبكة الاحتلال، أو بالربط الثُّماني لبعض الدول العربية، خاصة وأن حاجة غزة لا تساوي حاجة أحد أحياء القاهرة، وربما لا تزيد حاجتنا عن أحد الشوارع فيها، كما أن شركة التوليد مُصَمَّمةٌ للعمل بالغاز ابتداءً، وقد جُلِبَتْ من جنوب أفريقيا بعد أن جرى تكهينها، وأمست في عداد الخُرْدَة، ولكنْ كيف نأسى على قومٍ باركوا للاحتلال أربعة أخماس فلسطين، ورضوا أن يكون الخمس الأخير أراضيَ متنازعاً عليها، بما فيها شرقي القدس، ومربع المسجد الأقصى، وذلك الخمس موزَّعٌ بين ثلاثة أقسام أ، ب، جـ؟!!، ولا زال الاحتلال ماضياً في تهويده، وقد أصبحنا في معازلَ أو سجونٍ تضمُّ الكتل البشرية الواقعة تحت سياط الاحتلال، والتعاون الأمني الذي هو أشدُّ وَطْأً لرقابنا من الاحتلال نفسه، فقد باتت الأجهزة الأمنية كديار ثمود، يوم كان فيها تسعة رَهْطٍ يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون.
وبالعودة إلى آيات المقال نجدها تقابل بين المؤمن والكافر، وتجعل مثلهما كالأعمى والبصير، وتقابل بين الإسلام والجاهلية بوصفهما كالظلمات والنور، كما قابلتْ بين الحقِّ والباطل، وجعلتهما كالظلِّ والحَرُور، وختمت المقابلة بجعل الحياة والموت مثلين للإيمان والكفر.
لذلك؛ فإننا باستمساكنا بديننا الذي أُوحي إلينا، وبثباتنا على مبادئنا وجهادنا نكون مبصرين، ونعيش في النور، ونقف في الظل، ونتمتع بالحياة، بينما يعيش مَنْ يحاصرنا كالأعمى في الظلمات، بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، فكيف إذا انضاف إليها الحرور، وصار أصحابها في عداد الأموات؟!!؛ فإنه ليس من مات فاستراح بِمَيْتٍ، إنما المَيْتُ مَيِّتُ الأحياء، وقد قال سبحانه: " أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا .." الأنعام (122)
ولذلك فإن دعوة الإسلام قد أخرجنا الله بها من الظلمات إلى النور، فقد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً يتلو عليكم آيات الله مُبَيِّناتٍ؛ ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور، وهو الذي يُنَزِّلُ على عبده آياتٍ بَيِّناتٍ؛ ليخرجكم من الظلمات إلى النور، كما قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين، يهدي به الله من اتَّبع رضوانه سبيل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، وهو الذي يصلي عليكم وملائكته؛ ليخرجكم من الظلمات إلى النور، ولا عجبَ في ذلك؛ فالله وَلِيُّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت، يخرجونهم من النور إلى الظلمات، فهم صُمٌّ وبكم في الظلمات.
ثم إن مثل المنافقين كمثل الذي استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم، وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، فهم لا يرجعون.
ولذلك فإننا إذا كنا في ابتلاءٍ بانقطاع الكهرباء، وقد خَيَّم علينا الظلام، وإذا أضحينا نقاسي حرَّ الطقس مع حَرِّ السياسة والحصار، فحسبنا فضلاً من الله ونعمة أن الله حَبَّبَ إليكم الإيمان، وزيَّنه في قلوبكم، وكرَّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان، فقد مَنَّ عليكم بالبصيرة، وأمدكم بنور الإيمان، وبظلال القرآن، فأصبحتم بنعمته أحياءً، بينما خصومكم يعانون من العَمَى لا من العشى، فهم في الظلمات، وفي الحرور الناتج عن تحولهم إلى عبيد وخدم لأعدائهم، وإلى ألدِّ الخصوم لأبناء جلدتهم، وعما قليلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادمين؛ فإن موعدهم الصبح الذي تتصاعد فيه المقاومة في الضفة والقدس، كما استوتْ على سُوقها في غزة، أليس الصبح بقريب؟!!، وحسبُهم اليوم أنهم أموات غير أحياء، وما يشعرون، وقد حَقَّ فيهم قول ربِّنا:
" أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ " القلم (35، 36)
وقوله سبحانه: " أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ " سورة ص الآية (28)
وقوله عز وجل: " أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ " الجاثية (21)
والله غالب على أمره، وهو نعم المولى ونعم النَّصير