غزة / ديانا طبيل
أجبرت الظروف الاقتصادية الصعبة الكثير من الغزيين إلى العمل في مهن كانت مستبعدة من خيارات حياتهم المهنية خاصة و أن الأغلبية العظمى من برامج البطالة والتشغيل المؤقتة المخصصة للعمال تعطى الأولوية للعمل في مجال النظافة , مما يجعل بعض الأبناء يخجلون من مهن أبائهم في ظل النظرة الدونية المنتشرة في المجتمع لكثير من المهن الحرفية ولعل أبرز هذه المهن مهنة عامل النظافة والسكافى والمزارع والبائع المتجول .
فما السبب الذي يدفع الأبناء إلى إنكار مهن آبائهم ؟ و هل يعتبر خجلهم جزء من إنكار المعروف بالتربية ؟ ولماذا ينظر المجتمع إلى هذه المهن نظرة دونية تحط من قيمة ممتهنيها ؟
** أهانوا كرامتي
في هذا السياق تقول مريم "20 عاما " أن عمل والدها كان السبب في تضييع فرصة زواج مناسبة كادت أن تتم لكن في اللحظات الأخيرة فشلت حين سأل أهل المتقدم عن مهنة والدي وعرفوا انه يعمل في وكالة الغوث كعامل نظافة .
وتابعت:" منذ زمن اشعر بإحراج شديد عندما يسألني الناس عن مهنة والدي وخاصة أثناء أيام الدراسة عندما كانت المعلمة تسأل كل طالبة عن مهنة والدها.
وأضافت :" بعد هذا الموقف الذي مس بكرامتي ، أصبحت لا اخجل من مهنة والدي بالمطلق فيكفى انه استطاع تربيتنا بشكل يؤهلنا لان نكون ذوى قيمة في المجتمع ونتمتع بأخلاق عالية ، مستنكرة أن ينظر المجتمع هذه النظرة الدونية للمهن التي تقيهم المرض ودونها تصبح حياتهم لا تطاق .
أما كمال" 19 عاماً " فقال انه وبعد إغلاق المعابر وانعدام فرص الحياة في قطاع غزة قرر والدي العمل عند احد أصدقائه في بيع الخضار حتى يتمكن من إعالة إخوتي العشرة مما سبب لي الإحراج الكبير بين اصدقائى خاصة وانه اختار منطقة سكننا ليعمل فيها.
وأرجع كمال خجله من مهنة والده إلى أحاديث الناس وتعليقاتهم وخاصة من يساويه بالعمر والذين أصبحوا ينادونه " يا ابن البياع " مما دعاه مرات عدة إلى الضغط على والده لترك هذا العمل لكن دون جدوى .
وأضاف قائلا :" لم أكن أتخيل في يوم أن يصبح والدي بائعاً للخضار وأن تدفعه قساوة الحياة إلى هذا العمل" معبرا عن قلقه وتفكيره الدائم بهذه المهنة، الأمر الذي يجعله يدعو الله مرارا لتحسن الأوضاع رغبة في ترك والده لتلك " البسطة ".
** حمى الاستهزاء
في حين تقول إيمان والتي تعمل موظفة في احد البنوك لم أشعر بالخجل بالمطلق من مهنة والدي، لكن حين التحاقي بالمدرسة الثانوية التي يعمل فيها والدي صدمت بالاستهزاء الدائم من طلبة المدرسة كوني ابنة البواب .
وتضيف ثم انتقلت حمى الاستهزاء إلى منطقة سكناي حين رفضت احد جاراتي شراء احد قطع الملابس لانى اشتريتها وكانت مقارنتها كيف البس أنا وابنة البواب نفس الملابس .
و أضافت:" مع الوقت أصبحت عندي قناعة بأن مهنة والدي منبوذة ولا يتقبلها المجتمع كالمهن الأخرى، الأمر الذي جعلني اشعر في أوقات كثيرة بالحزن، منوهة إلى وجود فرق شاسع ما بين لفظ " ابنة الدكتور وابنة البواب.
** مفاهيم خاطئة
نظرة المجتمع الساخرة إلى أصحاب المهن الحرفية واليدوية إضافة إلى ما فرضه الواقع الاقتصادي الفلسطيني الصعب تعتبر أهم الأسباب التي تقف وراء ولادة مشاعر الخجل لدى الأبناء من المهن التي يزاولها آباؤهم وبحسب الدكتور داود حلس الأستاذ المساعد بكلية التربية بالجامعة الإسلامية بغزة فإن وجود هذه الظاهرة لا تقتصر على المجتمع الفلسطيني فقط، حيث توجد في غالبية المجتمعات العربية الأخرى.
وأشار إلى أن خجل الأبناء من مهن آبائهم في حال مزاولتهم لإحدى المهن الحرفية والفنية أو احد المهن المتدنية يعود إلى نظرة المجتمع الدونية إلى أصحاب هذه الأعمال والتي تولدت أصلا من التربية الأسرية الخاطئة والتي لطالما فضلت الأعمال الإدارية والوظيفية على الأخرى الحرفية والمتدنية من حيث التقييم في المجتمع .
وأوضح حلس أن المجتمع والأسرة زرعا فكرة الدونية في مفاهيم الأطفال وخبراتهم منذ الصغر فالابن لو حصل على معدل يفوق 90 بالمائة فإننا عادة ما نفضل التحاقه بكلية الآداب أو الهندسة ولا نفكر إطلاقا بأن نجعله حرفيا محترفا " ، مشيرا إلى أن خجل شريحة من الأبناء من مهن آبائهم هو ثمرة التربية الخاطئة التي نشئوا وفقا لها.
وأكد حلس أن بعض المختصين والمراقبين للواقع الفلسطيني كانوا قد حذروا في وقت سابق من أن العشرة أعوام القادمة ستشهد عجزا ونقصا واضحا في المهنيين والحرفيين أصحاب الأعمال الفنية واليدوية كالسباكة وغيرها وذلك لأن المجتمع يميل إلى تخريج أبناء دارسين للعلوم الأدبية الإدارية إضافة إلى عدم توريث هذه المهن من الآباء إلى الأبناء .
وشدد الباحث المختص على ضرورة العمل على تعزيز العمل المهني بكافة أشكاله من أجل القضاء على هذه الظاهرة وذلك من خلال "إظهار الأسرة لقيمة وأهمية عامل النظافة مثلا والذي يعمل على تنظيف المحيط الذي نعيش فيه أو ضرورة وجود الآذن والذي تحتاجه كامل المؤسسات ".
و دعا حلس إلى أهمية معالجة هذا الموضوع عن طريق المناهج التعليمية وذلك بتنمية المهارات الحرفية لدى الطلاب فضلا عن إعداد وعرض أعمال مسرحية تتقمص شخصياتها أدوار عامل بناء أو نجار وذلك من أجل تبصيرهم بأن الأصل في المهنة شرفها ومشروعيتها .