استلم المحررات "جرداء" وسلّمها "خضراء"

الوزير الأغا.. المزارع الذي قاد نهضة الزراعة في غزة!

الزميل محمد ابو زايدة اثناء حواره مع الوزير السابق
الزميل محمد ابو زايدة اثناء حواره مع الوزير السابق

الرسالة نت- محمد أبو زايدة

في اجتماعٍ بدت عليه الرتابة، همس لي أحد الزملاء بمقتطفات من حياة "طفل شقي، وطالب ذكي، ووزير ناجح، وعالم جهبذ، ومدرسٍ محبوب، وأديب مغمور"، فشعرت أنّ الأمر سيكون مختلفًا في حواري مع شخصية تجتمع فيها هذه الصفات.

تغيّرت خلال الاجتماع بوصلتي، وباشرت بكتابة الأسئلة التي سألقيها على الشخصية قبل تحديد الموعد، وبقيت أطراف حكايته عالقة في ذهني طيلة ذاك اليوم، وأبرزها "رفضه الدخول إلى الوزارة قبل الوصول إلى درجة بروفيسور، وتحويل محررات غزة الجرداء إلى جنّة خضراء، ومناقشة رسالة الدكتوراه بسؤال واحد تمثل بـ(حدثني عن قصتك يا محمد رمضان الأغا)، ثم قول مشرف رسالته له "لقد تفوقت على جامعة مانشستر بـ 10 أعوام".

طلبت الاستزادة عن حكاية هذا الرجل بتحديد موعدٍ لإجراء مقابلة، شرط أن تكون بعيدة عن أجواء المناصب، ليتسنى الدخول إلى أعماقه، وإزاحة الستار عن الغموض الذي تجلّى في شخصيته، وهو ما أثبته مع بدء حديثه بقوله "أبرز ما تعلمته التفكير والصمت العميقين".

استقبلنا في مكتبه الذي ينمّ عن بساطة صاحبه، والذي تميّز بمكتبةٍ بسيطة جمعت عشرات الأبحاث بداخلها، وعلبة "شوكولاتة" يقدمها لضيوفه قبل بدء الحوار.

بداية حديثنا مع الأغا تركزت حول أبرز محطات حياته، إلّا أنّه استأذننا ليقدم والدته على نفسه، ويسرد قصتها أولا، معللًا ذلك بقوله "والداي قدوتي في الحياة"، ونقف أمام بِرّهما صامتين، لنستمع إلى ما حوت روحه من لحظات فرحٍ وحزنٍ.

يقول: "سجّلت أنا وأمّي لموسم الحج 5 مرات وآخرها عام 2000، وعندما خرجت الأسماء، مازحتها أنني لن أستطيع مرافقتها، فأجابت أنّ الحج محرمٌ عليها ما لم أصاحبها".

سافر الابن وأمه إلى الديار الحجازية، ومرّوا بالبقيع، فأخبرته بأمنيتها الموت في مكة، وأن تدفن بجوار الرسول وصحابته، وما إن أنهت مراسم الحج، حتى شعرت بالتعب، ثم توفاها الله وهي في ملابس الاحرام، وتحققت أمنيتها.

دمعة شوق

هنا، سقطت دمعة الأغا، وتغيّرت نبرة صوته، وقال كنت سعيدا جدًا لأنّها ستبعث على ما ماتت عليه، وحزين لأنّي سأعود وحيدًا دونها".

حاول جاهدًا إخفاء دموعه، فوقف عن كرسيه، وأحضر "بكرج" القهوة، ليعيد الضيافة مرة أخرى علينا، وأخبرنا عن طفولته التي بدأت مع مولده عام (1959)، مرورًا بمرحلة الابتدائية والاعدادية والثانوية، التي قضاها في محافظة خانيونس جنوب القطاع، متميزًا خلالها بـ"شقاوته، واجتهاده، ومطالعته لعشرات قصص الأنبياء".

أنهى مرحلته الثانوية وتوجّه إلى مصر لإكمال دراسته الجامعية، وكان أوّل قرارٍ اتخذه في حياته، أن يستمر في علمه دون توقف، وصولًا إلى درجة "البروفيسور"، وتابع دراسته في كلية العلوم بجامعة القاهرة.

وصل الأغا إلى غزة في بداية ثمانينات القرن المنصرم، ومع أوّل أيامه حاملًا شهادته الجامعية بتقدير جيد جدًا، وقعت عيناه على إعلان وظيفة معيد جامعي في الجامعة الإسلامية، فتقدّم لها، وتمّ قبوله، وبقي في كنفها حتى اليوم.

دراسات عليا

"بعد عامين من التدريس داخل الجامعة، توفرت منحة دراسية لإكمال الماجستير في الجامعة الأردنية، فسافرت لاغتنامها"، ويشير إلى أنّ أحد الدكاترة صنّفه الخامس على دفعته قبل اختباره، فبدأ بقراءة عشرات الكتب والمراجع والدوريات، والمخطوطات وكل ما له علاقة بالعلوم، ليحصل بذلك على المرتبة الأولى في جامعته، وقرر ملك الأردن حسين بن طلال -آنذاك- تكريمه في حفلٍ خاص.

ويضيف الأغا "مرحلة الماجستير كانت فارقة في حياتي، علّمتني كيف تكتب وتنشر وتقيّم بحثًا علميًا، اجتزت مرحلة الماجستير خلال 20 شهر، ونشرت بحثي في مجلة بريطانيا مختصة بالأبحاث العلمية".

وبالعودة إلى غزة المحطة التي رجع إليها الأغا بعد انهائه الدراسات العليا، وأعاد مهمّة تدريس الطلبة في أروقة الجامعة الإسلامية، حتى وصل به الأمر لأن يكون التدريس في أحد الأعوام داخل بيته، بسبب "انتفاضة الحجارة عام 1987".

يتابع حديثه "أغلق الاحتلال جامعات غزة، وكانت فرصة لإكمال الدكتوراه، فقدّمت إلى جامعات أوروبية وأمريكية، وتم قبولي في أعرقها، واهتديت لأن أكمل تعليمي بجامعة مانشتسر في بريطانيا، وفور وصولي، جالسني المشرف منبهرًا من قوة بحث الماجستير الذي نشر في احدى المجلات العلمية، وسرعة إنجازه ونشره".

هنا لخدمتك

كان مُشرف الأغا، عميد كلية البحث العلمي في جامعة مانشتسر، ومستشار رئيس وزراء بريطانيا للشؤون النووية، وأعطى قرارًا لسكرتيره -بعد اطلاعه على السيرة الذاتية لطالبه الجديد-، ألا يغلق له بابًا، ويسهل له جميع مهامه، وسفريات بحثه، واحتياجاته الخاصة.

نظر الدكتور إلى الأغا، وقال له جملة لا تزال عالقة في ذهن الأخير، أخبرنا بها "قال لي: أنا هنا موجود لخدمتك، وعندما شكرته رد أن هذا واجبي لا يستدعي الشكر".

وضع الأغا نصب عينيه تحصيل أكبر قدرٍ من العلم، وباشر بكتابة بحثه تحت عنوان "تلوث بحر الشمال ببقايا معارك أسلحة الحرب العالمية الثانية"، وفي احدى الليالي حضر إليه مشرفه، ووجده منهكًا في إجراء الاختبارات العلمية، فسأله عمّا بيديه، وعند اجابته، تبسّم المشرف، وبدى وكأنّ الأرض لا تحمله من شدة السعادة، ثم قال للأغا، "من طلب منك ذلك"، وعندما ردّ عليه "أنا من نفسي"، كان جوابه "لقد اجتزت الآن مرحلة الدكتوراه ومستعد لمناقشتك بعد قراءتي لنتائج تجاربك".

كان الوقت الزمني لفترة الدكتوراه ثلاثة شهورٍ أثناء حوار الطالب مع مشرفه، وبعدها عقدت مؤتمراتٍ، وأصبح لقبه "خبيرًا في علوم المياه".

يتابع الأغا حديثه بعدما أعاد سكب القهوة في فنجان "مراسل الرسالة"، "جهّزت ورقة عملٍ لبحث تخرجي في أحد المؤتمرات، وبعد اختتامه طلبوا أن يطبعوا إصدارًا خاصًا في المجلة العلمية لبحثي، وانتشر وأنا ما زلت طالبًا لم أناقشه بعد".

كان القدر سيّد الموقف أثناء مناقشة الأغا لرسالة الدكتوراه، فعندما حضر المناقشان، كان بحوزتهما بحث تخرجه منشورًا ومحكّمًا في أرقى المجلات العلمية في لندن، فأخبره أحدهم "وأنا قادم حصلت على نسخة من المجلة، وتفاجأت أن البحث الذي سأناقشه منشورٌ فيها(..) أنا أريد أن أعرف قصتك".

سبقت لندن بسنوات

كان نقاش رسالة الأغا حول قصة حياته، ثم حاز على درجة الدكتوراه، وقبل عودته لغزة واكمال تعليميه لطلبة الجامعة الإسلامية، عرض خطة على إدارة جامعة مانشستر، فأعربوا عن شدة إعجابهم بها وأخبروه "أنت سبقتنا بتفكيرك عشر سنوات في خطتك.. عملك عالمي وله أبعاد دولية"، وعرضوا عليه العمل معهم، لكنّه رفض "لأنّ رسالتي تعليم أبناء بلدي".

تقلد منصب دكتور جامعي، وقدّم خطته للإدارة، المتمثلة بـ"إنشاء قسم علوم البيئة والأرض"، وكان أوّل قسم في فلسطين

عاد إلى الجامعة ليحل بمنصب دكتورٍ جامعي، وقدّم خطته للإدارة، المتمثلة بـ"إنشاء قسم علوم البيئة والأرض"، وكان أوّل قسم في فلسطين، وعلى المستوى العربي، حتى تولّى رئاسة القسم لأربع سنوات، ثم بقي مدرسًا دون أي مناصب إدارية في الجامعة، وبذلك يقول "أعتز أنني لم أحصل على مناصب إدارية، لأنني استطعت التفرّغ لأبحاثي".

أبحاث الأغا أوصلته إلى درجة "بروفيسور" مع حلول عام (2005)، حتى ترشح للانتخابات التشريعية بقائمة كتلة التغيير والإصلاح لأن نهجها هو الأقرب إلى قلبه.. يقول: "قبلت تولّى وزارة الزراعة والاقتصاد، لأنني حققت الهدف الأسمى بحصولي على الدرجة العلمية، وبدأت في مرحلة تطوير البلاد، وانتشاله من الأزمة التي يمر بها".

المنتج الوطني= قرار

يتابع حديثه: "عرض علي قبل الوصول إلى درجة بروفيسور أن أكون وكيل وزارة، فرفضت لأنني لم أكن قد حققت حلمي، وعندي قناعة أن المناصب تنتزع وفقًا للخبرات، ولو لم أكن حصلت على درجتي العلمية، لما قبلت تولّي أي وزارة".

وضع الأغا شعار "المنتج الوطني يساوي قرار" أثناء توليه المنصب، وبدأ بدعم الإنتاج الوطني، وأوقف استيراد بعض الفواكه والخضروات من دولة الاحتلال، واتبع منهج "الاقتصاد اليوسفي"، لإخراج بلاده من الأزمة وتدعيم منتج بلاده.

يضيف "الخطة اليوسفية هي فكرة جديدة تدخل في عملية بناء الدولة، وعبقريات إقامة الدولة الناعمة على منهج سيدنا يوسف عليه السلام".

تمثلت "الخطة اليوسفية" التي أطلقها الأغا مع توليه منصب وزير الزراعة في الحكومتين "العاشرة، والحادية عشر"، بتجسيد قصة سيدنا يوسف في إدارة الموارد على أرض غزة، والتخطيط الاستراتيجي، والتخطيط السباعي التقشفي، وعام الرفاهية، والمخزون الاستراتيجي، والادخار، والاحتياطات"، حتى شهد للقطاع بالاكتفاء الذاتي في مجال الزراعة، وهو ما أكده رئيس الوزراء السابق إسماعيل هنية، في حديثه عن كتاب الدكتور الأغا "التخطيط اليوسفي في آفاق الوعي نحو القراءة الحضارية الثانية".

وعمل الأغا وقتئذ على زراعة المحررات في قطاع غزة، واستثمار المناطق الجرداء، حتى أضحت خضراء يانعة.

"رسالتي للطلبة الذين يبتغون العلم والدرجات العليا منه، أن يقرأوا ويلبوا رسالة العلم، فمن خلالها تمتلك ما تريد"

"شعرت أنني استنفذت طاقتي، فقدّمت لرئيس الوزراء استقالتي مرتين، ولكنّه رفضها، وعند التشكيلة الوزارية، طلبت منه أن أعود للدراسة، وتمّ الأمر"، يتابع الأغا، وبعدما عدل جلسته الحوارية أضاف "شعرت بالراحة النفسية بعدما تركت حملًا ثقيلًا".

لن أتولى الوزارة

سألناه: وإن طلبوا منك أن تتولى الوزارة من جديد هل ستقبل، فكان جوابه: "لا، لانشغالي بأبحاثي العلمية مجددًا".

طفنا في دهاليز ذاكرة الأغا، الذي استرجع لنا قصة زواجه في بريطانيا، وتمثلت في استقبال زوجته بالمطار، وعقد زفافٍ بسيط جمع الجالية المسلمة، وأنجب ولدان وبنت، واكتفى بهما.

وعند سؤالنا عن أكثر شيء أثر عليه في حياته الأسرية، أخبرنا أنّ حقبة الوزارة استحوذت على وقته، لكنّه عاد من جديد إلى ما كان عليه من أجواء الأسرة، والمطالعة وكتابة الأبحاث.

يقول الأغا "أمتلك آلاف الكتب سواء الكترونية أو ورقية، ورسالتي للطلبة الذين يبتغون العلم والدرجات العليا منه، أن يقرأوا ويلبوا رسالة العلم، فمن خلالها تمتلك ما تريد".

وقد تولى الدكتور الأغا عدة مناصب قيادية ووزارية، إضافة إلى إدارته عشرات المشاريع الاستراتيجية، نظرًا لما يحمله من شهادات علمية.

وتبوأ الأغا أيضًا منصب رئاسة مجلس إدارة مؤسسة إبداع، ورئيس مجلس أمناء جامعة الأمة، وفوزه في رئاسة نقابة العاملين بالجامعة الإسلامية، وعن آخر منصبٍ يقول " ترشحت لنقابة العاملين، في محاولة لإيقاف التدهور الذي تعانيه الجامعة، ومحاولة النهوض بها من جديد".

أمّا الشهادة التي لم يحظ بها ضيفنا ويتمناها بشغف، فهو حلمه أن ينالها في كنف الأقصى، مضرجًا بدمه دفاعًا عنه، وفق ما ختم به حديثه لـ"الرسالة".

البث المباشر