وعد محمود عباس بتفجير "قنبلة" خلال خطابه الذي من المقرر أن يلقيه نهاية الشهر الجاري في الأمم المتحدة، لكن هذه القنبلة سرعان ما انفجرت قريباً جداً، في طولكرم، التي لا تبعد سوى 30 كلم عن رام الله، وليس في نيويورك أو تل أبيب.
فقد حول عباس نفسه إلى مادة للتندر عندما غصت مواقع التواصل الاجتماعي بصورة عناصر أمن سلطته وهم يعتدون بالضرب المبرح على فتى فلسطيني شارك في مظاهرة نظمت في طولكرم تنديداً بالاعتداءات الصهيونية على المسجد الأقصى.
لقد سمح عباس في المقابل أن يتحول الفلسطينيون لمادة للشماتة في وسائل الإعلام الصهيونية، التي سارعت لنشر شريط الفيديو والتعليق عليه، مع العلم أن عرض الشريط مثل بالنسبة لعدد من المعلقين الصهاينة دليلاً على خطأ نتنياهو الذي يبالغ في توجيه الإهانات لعباس، حسب تقديرهم.
بالطبع عباس، الذي يتباهى بأنه لم يطلق رصاصة في حياته قط، يحاول من خلال تعهده بالقاء "قبلة" سياسية في الأمم المتحدة تخويف (إسرائيل) والولايات المتحدة وبعض الأطراف الدولية العربية بأنه لازال في جعبته ما يمكن أن يقنع به تل أبيب بتغيير سلوكها تجاهه، سيما بعد أن ظهر عارياً، إثر إفلاس برنامجه السياسي، وقبوله بدور وظيفي يقوم على الإسهام في حماية المستوطنين في الضفة من خلال تكثيف التعاون الأمني، على أن تسمح (إسرائيل) بتواصل بقاء سلطته في الضفة.
ومن الواضح أن عباس أراد من خلال هذا التصريح "المسرحي" أن تنشغل تل أبيب وواشنطن بالتخمين ومحاولة سبر أغوار خطواته المستقبلية حتى يوم القاء الخطاب، على أمل أن يحاول أحدهم ثنيه عن محاولته.
حتى لو أقدم عباس خلال كلمته المرتقبة في الأمم المتحدة على الإعلان عن خطوة "درامتيكية" خارج سياق السمت العام له، لوجد ألف طريق للتراجع عنها، لأنه لا يضع في حساباته الاستعداد للمواجهة ودفع الثمن المنوط بذلك.
لقد راهن عباس على أن يعطي الانطباع بأنه يتجه للإعلان عن خطوة تغير بشكل جذري من واقع الأحداث، مثل الإعلان عن وقف العمل باتفاقيات أوسلو، مما يعني حل السلطة الفلسطينية، حتى تخشى (إسرائيل) تبعات هذه الخطوة لأنها تعني تحميل (إسرائيل) مجدداً تبعات احتلالها للأراضي الفلسطينية.
اللافت أن رهان عباس سقط قبل أن ينطلق، حيث أن إسرائيل لم تبد اهتماماً بفرقعته الإعلامية، لدرجة أن كبار المسؤولين الصهاينة لم يكلفوا أنفسهم عناء التعليق عليها.
لقد غاب عن بال عباس حقيقة أن (إسرائيل) تبني سياساتها بناء تجاه السلطة بناء على جمع معلومات استخبارية تجعلها تتأكد من حدود مواقف قادة السلطة.
لقد تأكدت (إسرائيل) من أن الاعتراضات التي أبدتها قيادة منظمة التحرير على المواقف التي كانت تصر عليها أثناء المفاوضات السرية في أوسلو، ما هي إلا اعتراضات أولية وأن قادة المنظمة لم يكن لديهم خيار سوى القبول ما تعرضه (إسرائيل).
لقد تمكنت (إسرائيل) من الإحاطة بطابع المواقف الحقيقية للمنظمة من خلال جهاز التسجيل الذي تمكن العميل عدنان ياسين من زرعه في مكتب محمود عباس في تونس عندما كان أمين سر منظمة التحرير. وقد يكون لإسرائيل تصور استخباري مصداق حول هوامش مرونة عباس.
من ناحية ثانية، فإن الصهاينة يعون تماماً طابع شخصية عباس وسماته النفسية وحقيقة أنه ليس مصنوع من مادة تؤهله للمواجهة، لذلك لم تعكس ردود الفعل الصهيونية تأثراً كبيراً.
لقد خرب عباس على عرضه المسرحي لأنه لم يقدم على أية خطوة تشي بأنه عازم على إحداث تغيير يمكن أن يشكل تهديداً لإسرائيل، بل قد حرص على طمأنتها من خلال تواصل التعاون الأمني وتبجحه بمواصلة اعتقال نشطاء المقاومة الفلسطينية وإطلاقه العنان لقادة سلطته لمواصلة الخطاب التوتيري على الصعيد الداخلي.
مشكلة عباس تكمن أن إدراكه حقيقة إسدال الستار على برنامجه السياسي لا تدفعه للولوج للاستنتاجات المطلوبة.
وحتى لو أقدم عباس خلال كلمته المرتقبة في الأمم المتحدة على الإعلان عن خطوة "درامتيكية" خارج سياق السمت العام له، لوجد ألف طريق للتراجع عنها، لأنه لا يضع في حساباته الاستعداد للمواجهة ودفع الثمن المنوط بذلك.
لقد جاءت محاولته دعوة المجلس الوطني لمنظمة لتحرير للانعقاد من أجل إدخال مزيد من التعديلات التي تزيد من إحكام قبضته على مفاصل الأمور في المنظمة لتدلل بشكل وثيق على سلم أولوياته الحقيقي، الذي لا يشمل أي مخطط لتعكير مخططات (إسرائيل) لمواصلة التهويد والاستيطان.
يخطئ عباس، إذا اعتقد أنه من خلال العروض الهزلية البائسة، التي لا تلائم شخص قد تجاوز الثمانين عاماً، بإمكانه التغطية على فشله وتهاوي برنامجه.
فالواقع المر الذي تحياه فلسطين في ظل الاستيطان والتهويد والمس بالمقدسات بالإسلامية، يحول أداءه الكوميدي إلى تراجيديا سوداء.