ما لم عجز عن تحقيقه عقدان من المفاوضات، ولم تفلح ضغوط دولية وحراك لدبلوماسي في اقناع قادة الكيان الصهيوني به، نجحت بضع أيام من العمل المقاوم في تحقيقه.
لقد كان رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو هو الذي تصدى لكبار وزرائه وقادة اليمين ورفض ليس فقط استئناف البناء في الضفة الغربية، بل أيضاً أمر بتجميد مخطط سابق أقرته حكومته للبناء فيما يعرف بـ"حائط المبكى"، خوفاً من أن تسهم مثل هذه الخطوات في تصعيد عمليات المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال.
ولتحقيق نفس الهدف، حظر نتنياهو على وزرائه ونواب الكنيست وقادة اليمين تدنيس المسجد الأقصى، مع العلم أنه لم يتردد في التنكر لتعهدات سابقة لحكام عرب بعدم السماح بتدنيس الحرم، لكنه لم يحترم هذه التعهدات.
ولا حاجة للتذكير أن بعض الحكام العرب الذين تدخلوا وطلبوا بوقف عمليات التدنيس تربطهم علاقات خاصة بتل أبيب.
صحيح أنه من المتوقع أن ينقلب نتنياهو مجدداً، عندما تخف حدة عمليات المقاومة، ويمكن أن يكثف عمليات الاستيطان بشكل أكبر، لكن الرسالة باتت واضحة: هذا الكيان لا يعرف إلا لغة القوة ولا يحترم في النهاية إلا المقاومة وفعلها.
وهذا يفترض أن يدفع جميع الفرقاء في الساحة الفلسطينية إلى إعادة تقييم المواقف من جديد.
وبالمناسبة، عملية إعادة التقييم تخدم بشكل أساسي المعسكر الذي ظل مستلباً لخيار التفاوض بوصفه خياراً أزلياً، لأن سلوك هذا المعسكر الذي يقوده رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أفضى فقط إلى تآكل مصداقيته الجماهيرية وأزال مسوغات وجوده ونسف ركائز شرعيته.
وهذا ما يفسر حالة الضياع التي تعيشها السلطة برئاسة عباس والتي تعاني أزمة خيارات قاتلة، ستسهم فقط في التعجيل بإسدال الستار على هذا المعسكر مرة وللأبد.
ليس المطلوب من قيادة السلطة في الوقت الحالي أن تعلن الحرب على (إسرائيل) وأن تأمر عناصر الأجهزة الأمنية بفتح النار على جنود الاحتلال، فمثل هذه الأمور قد لا تصب في صالح المقاومة أصلاً.
لكن المطلوب من قيادة السلطة أن تقطع وللأبد علاقتها بوهم التسوية والرهان على المفاوضات وأن تقوم بدورها في تهيئة الظروف لفتح مسار جديد يفضي في النهاية إلى وضع حد لهذا الاحلال الغاشم.
صحيح أن الفلسطينيين دفعوا ثمناً غالياً خلال المواجهات الأخيرة، لكن في المقابل، وعلى الرغم من اشتعال العديد من بؤر التوتر في العالم، فقد عادت القضية الفلسطينية لتكون في قلب الاهتمام العالمي وأعادت للشعب ثقته بنفسه، ورفعت (ولو مؤقتاً) من قيمة السلطة الفلسطينية لدى (إسرائيل)، حيث تبين أهمية التعاون الأمني ودوره في تهيئة الظروف أمام تواصل الاحتلال في ظل دفع ثمن بخس.
يعي القاصي والداني أن نتنياهو يقطع الليل بالنهار وهو يبحث عن وسائل تقود إلى عدم تحول موجة العمليات والهبة الشعبية إلى انتفاضة جماهيرية عارمة، على غرار الانتفاضة الأولى وانتفاضة الأقصى، فهو يتصل بقادة دول عربية، ويجري اتصالات مع ممثلي الإتحاد الأوروبي، على أمل أن ينجح تدخل ما في تحقيق الهدف.
يعي نتنياهو أن انخراط الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة والخط الأخضر في انتفاضة جماهيرية في هذا الوقت تحديداً يمثل وصفة قاتلة ليس فقط للأمن، بل أيضاً للاقتصاد.
وقد حذر المعلق الاقتصادي الصهيوني نحميا شتراسلر من أن اندلاع انتفاضة في الوقت الحالي يعني هروب الاستثمارات الأجنبية وزيادة النفقات الأمنية والانفاق العام وتعاظم نسبة البطالة، مما يعني حتماً تقلص النمو الاقتصادي بشكل كبير.
ومما يزيد الأمور تعقيداً بالنسبة للصهاينة حقيقة أن هذه التطورات تأتي في ظل تحولات خطيرة تحدث في البيئة الإقليمية.
فـ(إسرائيل) تراقب ما يحدث في سوريا ولبنان وسيناء، وغيرها من المناطق وتخشى أن تجد نفسها مضطرة لخوض غمار مواجهات غير محسوب لها في زمن لا يخدمها بالضرورة.
ويعي الصهاينة أن دفع قطاعات من الشارع العربي للاهتمام بما يحدث في فلسطيني سيشكل عامل ضغط على دوائر صنع القرار في العواصم العربية لاتخاذ موقف مما يجري، مما يضر (إسرائيل).
بالإضافة إلى ذلك، فأن نتنياهو معني بأن يحاصر تبعات الاتفاق النووي مع إيران من خلال التوصل لتفاهمات إستراتيجية مع الولايات المتحدة، وهو يعي أن تفجر الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية لن يسهم في مساعدته على تحقيق هذا الهدف.
خيارات نتنياهو الصعبة تحسن من مكانة الشعب الفلسطيني في الصراع القائم بشكل كبير، وهذا ما يستدعي انهاء حالة الانقسام الداخلي، والتوافق على برنامج وطني، مع استعداد كل الفرقاء في الساحة الفلسطينية لتقديم تنازلات من أجل انجاز هذا الهدف.
نتنياهو وكيانه في وضع صعب فلا تفوتوا فرصة استغلال اللحظة.