عريب الرنتاوي
منذ لقاء "الصدفة المرتبة" في مكة المكرمة، وجدت حماس نفسها أمام خيارين اثنين، أحدهما أصعب من الآخر: إما الاستجابة لنداء المصالحة الوطنية التي دارت عجلتها بسرعة جديدة بمجرد مكالمة واحدة من الوزير عمر سليمان للمقاطعة في رام الله، مع كل ما سيترتب على هذه الاستجابة من تفاعلات وتداعيات، وإما إدارة الظهر للوزير والمقاطعة ولوفد فتح الذي بلغ مشارف دمشق، والمقامرة بتحمّل المسؤولية عن إحباط آخر محاولة لاستئناف الحوار واستعادة الوحدة، تماماً مثلما حصل في مرات سابقة.
الحركة غلّبت الخيار الأول، من دون أن يساورها أدنى شك، في ضآلة الفرص ومحدودية التوقعات، بل إنها فعلت ذلك، وهي تدرك حجم الرفض والمقاومة، من داخل الحركة وخارجها، للعبة شراء الوقت وتقطعيه والتي يبدو أن أطرافاً فلسطينية وعربية ودولية، قد أتقنتها أيما إتقان.
توقيت "لقاء الصدفة المرتبة" في مكة المكرمة، كان مقصوداً، البعض يقول خبيثاً، ففي تلك الأيام، حزمت "السلطة" حقائبها وتوجهت إلى مائدة المفاوضات المباشرة مع "إسرائيل"، عارية من الضمانات والشروط المسبقة، وكانت الخشية لدى "معسكر الاعتدال" تتركز حول احتمالات نشوء جبهة فلسطينية مقاومة لعباس وفريقه، من داخل "السلطة" والمنظمة وفتح، ومن خارجها، سيما وأن إرهاصات هذه المعارضة كانت قد أطلت برأسها من داخل فتح، التي أخذ أعضاء في "مركزيتها" بالتنصل من قرار الذهاب إلى المفاوضات المباشرة، ومن داخل المنظمة حيث أعلنت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قرارها بتعليق مشاركتها في أعمال اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وبدأ ائتلاف اليسار بإطلاق حركة احتجاجية لافتة في الضفة.
لا شك أن فتح صفحة الحوار والمصالحة بين فتح وحماس في تلك الظروف، قد أسهم إسهاماً حقيقياً في وقف تداعيات قرارات استئناف المفاوضات المباشرة، ولا شك أن مناخات التفاؤل التي أشاعها الفريقان المتحاوران، قد "نفّست" حركة الاعتراض والاحتجاج التي كانت تتفاعل في أوساط الضفة الغربية ، وهذا أمر كانت تدركه حماس بلا شك، ولكنها مع ذلك، آثرت الذهاب للحوار والمصالحة، تفادياً لتحمل المسؤولية من جهة، وفي مسعى شبه يائس للخروج من أطواق الحصار والعقوبات التي تثقل كاهل الحركة في القطاع المحاصر.
ليس لدى قادة حماس كثير من الأوهام حول فرص نجاح الحوار وحظوظ المصالحة، فمن تتحدث معه من قادة الحركة، ينبئك بالخبر اليقين عن "المناورات والألاعيب"، عن "النوايا الكامنة" و"الأجندات الخفية" لدى الطرف الآخر، والحقيقة أنه كلما أكثرت "السلطة" من اتهام إيران بعرقلة عملية السلام - أبو مازن - وتعطيل المصالحة - عزام الأحمد - كلما ازداد المراقب يقيناً بأن "السلطة" غير جاهزة للحوار والمصالحة، وأن كل ما توخت تحقيقه من جولات دمشق الأخيرة، هو كسب الوقت واحتواء تداعيات "التفاوض المباشر"، على أمل التوصل إلى مخرج لاستعصاء المفاوضات والعملية السلمية.
لن تسمح واشنطن و"تل أبيب" والقاهرة "للسلطة" بأن تفتح كوة في جدار أجهزتها الأمنية لحماس... لن يسمح "التنسيق الأمني" لحماس بأن تكون شريكاً في "نظرية الأمن وأجهزته" في الضفة، لن يسمح "مجتمع المانحين" بأن تذهب أموال دافعي الضرائب الغربيين إلى جيوب "المندرجين على قوائم الإرهاب"، هذه خطوط حمراء لا يعود القرار بشأنها لرام الله في أي حال من الأحوال، ولذلك من الأسهل إطلاق الاتهامات لإيران على الإقرار بحجم الضغوط والاعتراف بالخطوط الحمراء و"الفيتوات" المشهرة في وجهة المصالحة والوحدة.
والمتتبع لآخر جولة من جولات الحوار، لحظ أن وفد فتح ذهب إلى دمشق بهدف واحد أوحد: "ما لنا لنا وحدنا، وما لكم لنا ولكم"، كل ما بني في الضفة الغربية من أجهزة ومؤسسات "ونظريات أمنية" و"عقائد قتالية" لنا وحدنا، لا صلة لكم به من قريب أو بعيد، وكل ما بني في غزة من بنى ومؤسسات وأجهزة ، يجب أن تعود "لبيت الطاعة"، وأن تخضع "للشرعية" التي لا تسير إلا في ركاب هؤلاء حتى وإن خسروا صناديق الاقتراع بصورة مدوية.
والحقيقة أن بارقة الأمل التي أشاعتها حوارات دمشق، انطلقت من رهان على "تسوية فوقية" لهذا الملف الشائك، تسوية تقوم على إبقاء الأوضاع على الأرض كما هي، في الضفة والقطاع وخلق إطر فوقية تنسيقية لا أكثر ولا أقل، لكن حتى هذا الاحتمال المتواضع (والمقلق)، يبدو أنه تبدد تحت ضغط الخلافات التي شهدتها الحوارات حول الملف الأمني، مثلما تبددت الآمال والرهانات لتحل محلها مشاعر اليأس والإحباط.
صحيفة الدستور الأردنية