زيّنت ابتسامته قاعة ملآى بالـ "بلالين، والدُمى"، وقالب حلوى عليه شمعة برقم (5)، ومن فوقه اسم شقيقته "حلا".
أصوات الفرحِ تنبعث من المدرسة التي نظّمت عيد ميلادٍ للطفلة حلا، وبعدما عمّ السكون الأرجاء، ألقى بنظراته على شقيقته، وأهداها قبلة الوداع، ودعوة "كل عامٍ وأنت بخير".
غادر العشريني المكان، ولم يعلم أحد وجهته، حتى نقل مذيع نشرة أخبار المساء على شاشة التلفاز، خبر عاجل أسفل الشاشة، كتب عليه "استشهاد الشاب أحمد جمال أحمد طه (21 عامًا) خلال تنفيذه عملية طعنٍ في مدينة رام الله".
رسم خبر الطعن ابتسامة على مُحيّا الفلسطينيين، لا سيّما أنّ الأخبار توالت تباعًا بموت أحد المستوطنين الذين تمّ طعنهم بسكين أحمد، وإصابة الآخر بجراح خطيرة.
"كان شايل البيت على راسه، وابتسامته ما بتفارقه"، بهذه الكلمات بدأ الحاج رياض حديثه لـ "الرسالة"، ودارى حزنه بكلماته المتكررة "لا حول ولا قوة إلا بالله".
حدثنا الحاج رياض عن أحمد بقوله: "انفصلت والدته عن والده، لخلافاتٍ عائلية، وعانى الأخير من المرض الخبيث -السرطان-، وبقي لسنوات أسير الفراش، بينما والدته عادت إلى الأردن لتقطن في بيت ذويها".
ويضيف: "ما إن يشعر والد أحمد باشتداد الإعياء عليه، حتى يكون ابنه أوّل من يداويه، ويستند عليه، ويسهر طيلة الليل لعلاجه ما استطاع إلى ذلك سبيلًا".
لم يتوقف أمر أحمد على مساعدة والده المصاب بالسرطان فحسب، بل كان يعيل أخوته الثمانية -5بنات، و3أولاد-ويعمل في أكثر من مهنةٍ ليصرف عليهم.
وقبل ثلاث سنواتٍ من كتابة التقرير، استشهد والد أحمد بعد اشتداد المرض عليه، وعاش الأخير في لحظاتِ حزنٍ وتحدي، ليثبت أنّه على قدر المسؤولية.
"عمل في ورشة للحجار، وبعدها في كراجٍ للسيارات، ولم يستطع تكملة مرحلة الثانوية العامة بسبب أعباء العمل، وآخر مهامه التي كلّف بها كانت في محل للمواسير". يقول عمّه الحاج رياض.
وفي صبيحة يومه الأخير، زار أحمد جدّته التي لم تبخل عليه في صغره بالحكايات، وعلى غير عادته أصبح مشتتًا أمامها، حتى سألته "شو مالك يا ستّي"، فأخبرها "حاسس إنّي تعبان، جيت أسلّم عليك وبدي أروح أرتاح".
قبلة الوداع التي رسمها على جبين جدّته، كانت آخر ما تركه أحمد خلفه في بيت العائلة، ثم أعطى شقيقته قبلة أخرى بعد حضور عيد ميلادها، ونزل إلى رام الله، ونفذ عملية طعنٍ، استطاع خلالها قتل مستوطن، وإصابة مستوطنة بجروحٍ وصفت بالخطيرة.
حاول أحمد -وفق الرواية الإسرائيلية- أن يطعن أكثر لكنّ طلقات جنود الاحتلال أوقعته، وبقي ينزف حتى أعلن عن نبأ استشهاده.
يحدثنا عمّه الحاج رياض: "لم نتوقع يومًا أن يقدم على هذا الأمر، لأنّه بطبيعته هادئ، لا علاقة له بأي تنظيم".
ويتابع: "علمنا الخبر أثناء اتصال الارتباط الفلسطيني علينا عصر الاثنين الماضي (23/11)، واخبارنا باسمٍ مختلف ونفينا أن يكون لنا صلة به، ولكن شاشة التلفاز أظهرت الاسم الحقيقي لابن شقيقي، وتبعته مكالمة أخرى من الارتباط بتعديل الاسم، وأخبرنا أنّ مكان استشهاده قرب محطة وقود "دور ألون" القريبة من مستوطنة موديعين على طريق (443) غربي رام الله".
تنهيدة من القلب أخرجها الحاج رياض، وأنهى حديثه لـ"الرسالة" بقوله: "رحل طيّب القلب، وعشية استشهاده ألقى أيضًا قبلة الوداع على قبر والده، ونشر صورته على حسابه الفيس بوك، فالتقى أحبته في الجنان".