(الجزء الثاني)
كأنّ مغناطيسًا يجذبنا لحكاية الحاجة فاطمة الحلبي، فالشوق لسماع تفاصيل قصتها شدّنا ثانية إلى مكتبها الذي تحتضن جدرانه حكاياتِ وجعٍ أبطالها "والدها وزوجها وآخرين".
حطّت رحالنا في الحلقة الماضية مع "فاطمة" بعدما أخبرتنا عن حياة والدها الذي لقي صنوف العذاب من الاحتلال "الإسرائيلي"، وزواجها من زياد الحسيني وطريقة إعدامه في بيت أحد الشخصيات الفلسطينية بغزة، وصولًا إلى كمين اعتقالها.
وصلت "فاطمة" إلى إحدى الزنازين ويداها مكبلتان بالسلاسل الحديدية، وشاهدت والدها أمام ناظريها "مشبوحًا" كما ولدته أمّه، والدم ينساب من جسده.
أجلسها المحققون في زنزانة زجاجية وصوّروها كـ"مُتّهمة"، ونقلوها إلى أخرى لا تتسع إلّا للجلوس مقرفصًا، ثم تركوها أيامًا تعاني ويلات المعتقل.
"تركوني في الزنزانة لأيّام، فنسجت قصّة وهمية وحفظتها عن ظهر قلب"، تقول فاطمة، وتشير إلى أنّها تأكدت من خلوّ أسماء أي عنصر من تنظيم قوات التحرير الشعبية ضمن ما أحاكته في خيالها.
أنا وليس عائلتي
أحضرها رجلُ السجن إلى قاعة المحكمة، وطلب منها أن تعترف على "جرائمها"، لكنّها رفضت، قائلة: "لن أتحدث ببنت شفة وأبي لا يزال في سجونكم.. أنا المطلوبة فاتركوا عائلتي دون أذيتها".
خضع الاحتلال لكلام "فاطمة"، وأخرج والدها من زنازينه، والتفّ الجنود من حولها، وأخرجوها إلى كرسيٍ خشبي في غرفة ملآى بمكبّرات الصوت، ثم قيّدوا يديها وقدميها بالسلاسل، طالبين منها الاعتراف.
"أحضروا لي ورقًا وقلم، وقالوا لي أكتبي كل ما لديك"، تقول فاطمة، وتفصل بين حديثها بابتسامة هادئة، وتتابع: "سردت التفاصيل التي نسجتها من واقع الخيال، وسلمتهم الورقة".
قرأ المحقق الكلام الذي كتبته فاطمة، ثم صرخ في وجهها: "ما هذا الهراء.. كل ما كتبته كذب أخبرينا بالحقيقة..". قاطعته بحديثها "هذا ما عندي، إن شئتم صدقوني أو أنتم أحرار".
دارى بوجهه اتجاه مخرج الغرفة، وأخذ يشتم بأقبح العبارات، ثم خرج وطرق الباب بقوّة، ومع خروجه بدأ يتسلل صوت الرنين من السماعات، ويعلو تدريجيًا، "حتى شعرت أنّ رأسي سيتفجر من شدّته، وكنت أصرخ كي يطفئوه"، تقول فاطمة.
أطفأوا السماعات ودخل المحقق إليها من جديد؛ متبسمًا معتقدا أنّه في طريقه للنصر، ثم طلب منها إخباره بالحقيقة، وكان جوابها: "لو لم تصدقني فاطلب من الأسماء التي كتبتها في الورقة بالحضور لمواجهتي..".
كانت حلقات التعذيب تستمر تباعًا دون توقف، وما يواسي "فاطمة" ويهدئ من روعها، صوت والدها الذي بقي عالقًا في أذنيها: "إيّاك وأن تعترفي على أحد، إن لم تستطيعِ.. وعذبوكِ فاقتلي نفسك قبل أن تعترفي".
تعذيب وانتقام
شعر الاحتلال أنّه أمام قوّة حقيقية متجمعة في جسد أنثى تُسمّى "فاطمة"، وفي إحدى حلقات التعذيب، دخل الضابط "الإسرائيلي" –أبو سامي- إلى الغرفة المخصصة للتحقيق -في أجواء الشتاء القارس- وبيده سلسلة من حديد، ودونما همسٍ جمّع قوّته وطرق الحديد على رأسها، صارخًا بالشتائم عليها لأنّها "قهرت كبدهم، ومرّغت كبريائهم، وأذلت أنوفهم".
سال الدم من رأس "فاطمة"، وفقدت الوعي، لكنّهم أحضروا دلوًا من الماء البارد وسكبوه عليها، وأعادوا الكرة مراتٍ عدة؛ حتى استفاقت، فتركوها بكلمات تهديدٍ "أن القادم أصعب ".
"خططت لحفر نفقٍ في السجن وفي منتصف الطريق كشف أمرنا"
تقول فاطمة: "بعد أيّام وصلتني رسالة مكتوبة بخط اليد من عناصر في قوات التحرير، وموضوعة داخل حبّة بطاطا مسلوقة؛ أخبرتني تلك الرسالة أنهم انتقموا لي واغتالوا أبو سامي وأمريكي كان برفقته بالقنابل".
تتحدث فاطمة أن "صفقة جرت مع الاحتلال من شخصيات فلسطينية (عملاء ومربوطين مع إسرائيل) يتمّ بموجبها إخراجنا من السجون واستحواذ حركة فتح علينا للانضمام إليهم"، وتشير إلى أنّها تنسّمت رياح الحرية بعد أن لاقت صنوف العذاب في مراكز التحقيق لمدة (7 شهور) في "السرايا" بمدينة غزة.
تتساءل الحلبي: "منذ متى ينظم الاحتلال حفل تكريم واعتذار لنا بعد إطلاق سراحنا، ويخرج معتقلًا متهم بقتل عشرات الجنود من قواته، هل هذا معقول دون أن يكون لقيادات فلسطينية يد في ذلك؟".
حضرت قيادات من حركة فتح، وطلبت من "فاطمة"، ضمّها إلى الحركة، وتوضح أنّها رفضت المقترح، وعادت أدراجها إلى بيتها؛ الذي حاصره الاحتلال طيلة فترة اعتقالها.
باشرت "فاطمة" بلملمة أوراق التنظيم؛ في محاولة لإحيائه من جديد، لكنّ تهديدًا وصلها على شاكلة رسالة من كبار الشخصيات الفلسطينية في ذلك الوقت، تركها مع والدها وفي فحواها: "لا نريد ابنتك في فلسطين وإلا ستلاقي مصير زوجها زياد الحسيني".
وتضيف:" "بعد أن خرجت من السجن جاءني اثنين من المسؤولين، وصلوا لوالدي وهددوه إن بقيت سألقى مصير الحسيني.. قدموا إغراءات لي أنّني إن أبعدت للخارج سيتوفر لي شيكًا من المال مفتوح، وبيت، وممتلكات.. لكنني رفضت".
محاولة اسقاط
وبعد أيّام وصل "فاطمة" استجواب من الحاكم العسكري "الإسرائيلي" لمقابلته في مقرهم بغزة، تقول: "استمرت المقابلة لـ4 ساعات ونصف، عرض علي خلالها أن أكون عملية لحسابه".
كانت لهجة الحاكم العسكري مغرضة، تلتقط نقاط الضعف في "فاطمة"، في محاولة للدخول لها من خلالها، تضيف: "أخبرني أن أعدائي كثر، ولا يقتصرون على الإسرائيليين.. وأعطاني رقم خاص به لأتصل عليه إن رغبت في الأمر".
أخذت "فاطمة" الورقة، ومزّقتها أمام عين الحاكم، وقالت: "أتمنّى من ربي أن يعطيني القوة لأقطّعك إربًا كما الورقة".
استشاط الحاكم غضبًا، ثم قال لها: "أعدك يا ابنة الحلبي لن تطيل حريتك خارج السجون، لأنّك كسوسة الخشب؛ تنخرين في الدولة الإسرائيلية حتى تدمرينها".
تركت "فاطمة" الحاكم، وذهبت إلى مجموعتها التي كوّنتها من جديد تحت اسم "قوات التحرير الشعبية"، وباشرت بالتخطيط وقيادة القوات.
"نفذنا عمليات موجعة للاحتلال، وقتلنا ما استطعنا منهم"، تقول فاطمة، عدلت جلستها لتريح جسدها بعد ساعات –فترة لقاء الرسالة-، وتتابع: "قررت أن أعقد صفقة سلاح من تل أبيب عن طريق اسرائيلي درزي، وفعلت ذلك لـ(6 مرات متتالية).
كانت "فاطمة" دائمًا تتخفّى بملابسها، وتداري بعباءتها أيّ أمرٍ من شأنه كشفها، ومن تتعامل معهم يعتقدون أنّها رجلًا، وفي إحدى صفقات السلاح؛ تعرّضت للخيانة من أحد عناصر التنظيم، وفوجئت بمحاصرة قوات الاحتلال للمكان.
تتابع حديثها "حاصروا المكان، ولم أكن اتعامل باسمي الحقيقي، لكنّ الضابط الذي أخبرني أنني لن أمكث كثيرًا خارج السجن هو ذاته من كان يقود القوة إلى المكان المتواجدة به".
أعلنوا مرة جديدة في إذاعاتهم أنّهم "ألقوا القبض على فاطمة الحلبي"، وفور وصولها إلى مركز التحقيق، بدأوا بتعذيبها، "سكبوا المياه الباردة على جسدها، وأشعلوا أربع مراوحٍ في جميع الاتجاهات؛ الأمر الذي أدى إلى تلف كليتها".
تكزّ على أسنانها، وتضغط بيديها على الكرسي الذي تجلس عليه، وتستحضر مشاهد التعذيب الذي تعرضت له، تقول: "تعرضت للشبح، ومزّقوا شعري بأيديهم..، وحرقوا قدماي، وصوت الزنين في الغرفة لم يتوقف، وجوّعوني لأيّام، وشغّلوا الكهرباء على جسدي، واستخدموا ما لا يخطر ببال أحد من صنوف التعذيب للانتقام".
"ضابط المخابرات قال لي: لو وجدنا (4 نساء) في جهازنا مثلك لن ننهزم قط"
انتهى المطاف بضباط الاحتلال بعد استخدام جميع الوسائل لنزع اعتراف من "فاطمة"، بإجابتها أنّها "لا علاقة لها بأي تنظيم، أو أي عملية فدائية".
سنهدّ قواكِ
وبعدما شعر الاحتلال أنّه "لن يأخذ منها حقًا ولا باطل"، حكم عليها بالسجن لـ(14 عام تنفيذي، و20 عام تنفيذ مع الإبعاد) بتهمة "إنشاء تنظيم عسكري معادي لدولة إسرائيل".
تولّى رئاسة التحقيق مع "فاطمة" ضابط يسمّى "أبو سيف"، وأخبرها في إحدى الجلسات، "لا تحلمي أن نعيدك لغزة ما دامت إسرائيل في الوجود.. سنعذّبك حتى نهدّ قواكِ، ثم نبعدك إلى دولة صديقة لنا".
وأثناء انتهاء التحقيق مع "فاطمة"، وعشية نقلها إلى "سجن الرملة"؛ جاءها المحقق "أبو سيف" في زيارة خاصة من "تل أبيب"، وفور رؤيته لها، قلع طاقيته عن رأسه وانحنى ثلاث مراتٍ لها، وقال لها: "لو وجدت (4 نساء) في المخابرات الإسرائيلية مثل فاطمة الحلبي لن ننهزم قط"، وتابع حديثه لها: "الآن علمت لماذا اختارك زياد الحسيني زوجة له".
"عقدت 6 صفقات سلاح مع ضباط من (تل أبيب)"
انتهت زيارة "أبو سيف"، وفي الصباح توجّهت "فاطمة" إلى سجن الرملة، غرفة (48)، وكانت تعليمات الضباط على جميع من في القسم، مجموعة محاذير أبرزها: "محاولة اشغالها بالتعارك معها، وعدم دخولها المطبخ خشية من عمليات طعن، وحكموا عليها بالأشغال الشاقة في تكسير الصخر بأحد الحقول".
التخطيط للهروب
كانت "فاطمة" تفتتح نهارها داخل المعتقل في تكسير الصخر بالحقل، وتنهيه داخل غرفة السجن في محاولة لتجنيد إحدى السجّانات، وبعد جهدٍ طويل، نجحت في ذلك، واستطاعت من خلالها الوصول إلى "الدواء، والأكل، وحفر نفقٍ".
تقول "فاطمة": "أثناء عملي بالصخر، خططت لحفر نفقٍ لنهرب من خلاله، وفي منتصف الطريق تمّ كشفنا، ونقلوني على إثر ذلك إلى الزنازين الانفرادية، ولاقيت صنوف التعذيب مجددًا".
استمرت مغامرات "فاطمة" في السجون "الإسرائيلية"، وفي كلِ مرةٍ يتم عزلها "بالانفرادي"، وتعذيبها، حتّى أنهكها المرض، وبدأت تتقيأ الدم، وأصابتها قرحة في المعدة، وكادت تفقد نظرها من شدّة التعذيب، حتى قرروا إبعادها إلى الأردن.
دعتنا "فاطمة" إلى زيارتها في المرة القادمة، لتلخّص لنا حكايتها المختبئة في ذاكرة الوطن، وتشمل معاناة الغربة في الأردن، وخوضها النضال تحت اسم "الجبهة الشعبية"، وهروبها من الأردن لسوريا سيرًا على الأقدام، ورحلتها عبر عدّة بلدانٍ عربية، حتى وصولها إلى غزة، كونوا بالقرب في الجزء الثالث والأخير من حكاية "فاطمة الحلبي".
لقراءة الجزء الأول اضغط هنـا