بالمقارنة مع غالبية الانتفاضات والهبات الفلسطينية، وربما مع أغلب الانتفاضات والثورات والموجات الاحتجاجية الشعبية عالمياً وتاريخياً، فإنّ الهبّة الفلسطينية الراهنة التي دخلت شهرها الثالث، بدأت من دون واقعة تشكل الشرارة التي أشعلت الحدث. وعادة ما تعتبر مثل هذه الشرارة جزءا من تاريخ أي حدث انتفاضي، الأمر الذي يلقي، بحد ذاته، ضوءاً على خصوصية الحالة الفلسطينية الراهنة.
بدأت هبّة البراق العام 1929، بسبب حوادث حائط البراق؛ وانتفاضة 1987 مع دهس أربعة عمال فلسطينيين في غزة، وانتفاضة الأقصى 2000، مع زيارة رئيس المعارضة الإسرائيلية حينها، آرييل شارون، إلى المسجد الأقصى.
نتجت الانتفاضة الراهنة عن تراكم مجموعة كبيرة من الإرهاصات. وبالحديث مع الشبان الفلسطينيين، تجد سلسلة كبيرة من الأسباب التي يراقبونها عن كثب؛ بدءا من فشل العملية التفاوضية، إلى عدم جدوى عمليات التدويل والحصول على الاعتراف الدولي في تغيير أي شيء من واقع حياتهم اليومية، إلى شعورهم أنّ هناك من يعيش تحت الاحتلال فعلاً، وآخرون لا يبدون كذلك، بمعنى وجود معاناة يومية يعيشونها مقابل فئات تحتفظ ببطاقات "VIP"، تمر على الحواجز من دون عناء، وتعيش وضعا مريحا ماليا، فضلا عن استمرار الانقسام، وعجز الفصائل.
كانت هناك جرائم احتلالية مستمرة، بدءا من حرق محمد أبو خضير في القدس، إلى حرق عائلة دوابشة في دوما، جنوب نابلس، إلى الاستيطان، وعمليات تهويد المسجد الأقصى، إلى عمليات القتل والاعتقال المستمرة، من دون أي رد أو ردع من أي نوع. هذا كلّه أدى إلى انتفاضة لسان حالها أنّ "الكأس امتلأت"، أو "طفح الكيل".
هذا الوضع، حيث لم تؤد أي عملية احتلالية مستفزة لشرارة عمل جماعي، خلقت عشرات أو مئات الشرارات الفردية؛ أي أصبح لدى كل شاب أو شابة فلسطينيين قصصهم الشخصية، التي تؤثر فيهم. حالات عاشوها وشاهدوها تمس أقارب وأحبة، ومعاناة جماعية، وتضييق على حياتهم، ومن دون قنوات لهم للمشاركة في الحياة العامة، وتحديداً في جهد نضالي جماعي، بما أدى إلى انتفاضات فردية متتالية، على شكل عمليات منفردة، ومواجهات مع الجنود والمستوطنين، بمجموعات صغيرة، بحد أدنى من التنظيم.
ربما تكون عملية الشاب مهند الحلبي، في بوادر عمليات الطعن، نوعا من الشرارة، الذاتية الصنع، أي أصبح الشباب يصنعون شراراتهم بأنفسهم.
إذن، لا يوجد شرارة محددة، وهناك شرارات فردية عديدة مما يعانيه الفلسطينيون، أدت لأن "يطفح الكيل"، وأن يصنع الشبان شرارات مقاومة خاصة بهم.
الواقع أنّ الحالة الراهنة تمتاز بغياب العمل الجمعي الفلسطيني، وغياب الفصائل وغياب منظمة التحرير الفلسطينية، واقتصار السلطة الفلسطينية على أقل من 20 % من الضفة الغربية، وشعور الفلسطينيين أن أكثر المجالات فعالية للسلطة هو التنسيق الأمني مع الإسرائيليين. كل ذلك بالتزامن مع حقيقة أنّ الجيل الجديد الذي وصل سن العشرين (أي سن الثورة) هو جيل متحرر من اتفاقيات أوسلو، ماديا ومعنويا؛ أي لا يرتبط براتب وقروض آخر الشهر، أو وظيفة وتعليمات من مسؤوليه، وليس لديه أي شيء يجذبه لا ماديا ولا معنويا ليكون جزءا من تركيبة "أوسلو"، أو الفصائل المنقسمة التي لم تأت له بتحرر أو أمل في المستقبل، ويعيش معاناة يومية. وبالتالي أدى كل ذلك للانتفاض.
هناك حالات في التاريخ الفلسطيني لثورات من دون شرارة محددة، منها ثورة العام 1936، والثورة الفلسطينية المعاصرة العام 1965. في الحالتين، تطور الأمر لثورة عامة ممتدة زمنيا، ولكن تلك كانت ثورة؛ أي أكبر وأشمل من انتفاضة أو هبّة، تأخذ شكلا يجبر القيادة أن تتنحى (ثورة 1965 وتغيير أحمد الشقيري)، أو على تبني النهج الثوري (1936 وتبني الحاج أمين الحسيني للكفاح المسلح). والآن السؤال هو: هل سيتطور نوع من القيادة والديمومة للانتفاضة، والامتداد جماهيرياً، مع تغييرات سياسية فلسطينية كبيرة؟
هناك ميل لدى الفصائل والناشطين الأكبر سناً للصمت الآن، وانتظار مآلات الموجة الانتفاضية. وسيكون الفيصل في صناعة الحدث المقبل، هو مدى قدرة الشبان المنتفضين، في انتفاضة استنزاف واضحة، على الحصول على دعم مدني وسياسي وشعبي في نشاطات تمتد لقلب المدن الفلسطينية، وتُشعر الأطر السياسية أنها تفقد مكانها.