في مساء يوم الخميس، 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، كان الفتى فراس مقداد (16 عاماً) يصطاد السمك في عُرض البحر قبالة ميناء غزة، ليعول أسرته في القطاع. أطلق عليه جنود السيسي من الحدود المصرية النار، فقتلوه.
ويروي عمه زياد، الذي كان معه لحظة استشهاده، تفاصيل الجريمة قائلاً: «بعدما ألقينا الشباك في البحر، بدأ جنود مصريون، موجودون داخل برج عسكري على شاطئ البحر، بإطلاق النار عشوائياً، فأصيب فراس بطلقة في ظهره، واستقرت في قلبه ليفارق الحياة قبل نقله إلى المشفى».
فُجعت عائلة فراس بقتل ابنها، لاسيما على أيدي الجار ذي القربى، وتساءل أبوه مقداد بحرقة: كيف يقتل الجيش المصري طفلاً بريئاً كان يصطاد مع عمه على بعد يزيد على 500 متر من الحدود بين غزة ومصر، مشيراً إلى أن لدى البرج العسكري المصري على الحدود مناظير تمكّنه من مشاهدة الصيادين بوضوح. ولم تكتف سلطات الانقلاب في مصر بقتل الفتى، بل تجاهلت الاتصالات التي أجرتها شخصيات فلسطينية في غزة معها للاستفسار عن ملابسات ما جرى.
أميرة شعث، الناطقة باسم مركز «الإنسان للديمقراطية والحقوق»، استنكرت إطلاق النار على فراس بوصفه اعتداءً على السيادة الفلسطينية، وانتهاكاً لاتفاقية حقوق الطفل عام 1989.
وأكّدت شعث لموقع الجزيرة نت أن استمرار نظام السيسي في إغلاق معبر رفح أمر غير أخلاقي ولا قانوني، مندّدةً بإغراق النظام منطقة الحدود بالماء، واستمراره في سجن صيادين فلسطينيين لم يرتكبوا ذنباً سوى الصيد في البحر، لتوفير لقمة عيش لأطفالهم، داخل حدود المياه الإقليمية الفلسطينية (11 تشرين الثاني/نوفمبر 2015).
إسماعيل هنية، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، عبّر عن غضب كل فلسطيني وعربي عندما استنكر بعبارات قوية «الاستخفاف بالدم الفلسطيني»، وما وصفه بـ «قمة الاعتداء على القيم والتاريخ وضوابط الأخوّة بين الشعبين الفلسطيني والمصري»، لافتاً إلى أن «العدو يقتل شبابنا وحرائرنا»، ولا ننتظر أن يمارس الجيش المصري الدور ذاته، مضيفاً: «كفى استخداماً للنار تجاه المواطن الفلسطيني...لدينا انهيارات في منطقة الحدود بفعل القناة المائية» التي حفرها جيش السيسي، مستدركاً: «...لتغلق مصر الأنفاق، لكن عليها أن تفتح المعبر في المقابل»، مضيفاً: «نحن ملتزمون بأمننا وأمن مصر وبالأمن العربي...ومعركتنا مع العدو الإسرائيلي فقط» لكننا «لن نقبل استمرار هذه المعاناة...فمعبر رفح مُغلق، والحدود تُغرق بالمياه، والصيادون يتعرضون لإطلاق النار؛ هذه ليست طريقة مُعبّرة عن علاقات أشقاء، وعن تاريخ وجغرافيا وجوار».
مأساة فراس ليست إلا مثالاً يجسّد تعامل نظام السيسي مع قطاع غزة. كما أن الجريمة ليست الأولى، فقد تكررت حوادث إطلاق النار على الصيادين الغزيّين منذ الانقلاب المشؤوم في مصر صيف عام 2013. يتصرف الجيش المصري في سيناء وكأنه عصابة من قطاع الطرق، فيختطف فلسطينيين من آن لآخر، ولا يقدّم حتى معلومات لذويهم عن مصيرهم، ويستمر في إغلاق معبر رفح في ازدراء بشع للحياة الإنسانية، مانعاً الغذاء والدواء، وغير مكترث باستغاثات المرضى والمعذبين وذوي الحاجات على الجانب الآخر من رفح، ما يُعدّ حتى في القانون الدولي جريمة حرب.
إن إغلاق السيسي معبر رفح يحرم الفلسطينيين من حقوق أساسية كالعلاج والتعليم والتنقل، وهو ما يحظره الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقيات دولية أخرى. ولم يكتف السيسي بهذا الإغلاق الوحشي، بل استمر في هدم الأنفاق المحاذية لقطاع غزة على نطاق واسع، وهي شريان الحياة الوحيد الذي يحصل الغزيّون من خلاله على حاجاتهم الأساسية. ودفعت كراهية غزة، والاستماتة في إرضاء «الحليف» الصهيوني، السيسي إلى مدّ خراطيم الماء لإغراق منطقة الحدود الفلسطينية المصرية بماء البحر المالح، ما أدّى إلى كوارث بيئية، كانجراف التربة، وتلويث المياه الجوفية، فضلاً عن تهديد أساسات منازل المواطنين.
باختصار، ينظر النظام الفاشي في القاهرة إلى قطاع غزة بوصفه سجناً للمجرمين، لا أرضاً يعيش في أكنافها شعب شقيق يعاني من ويلات الحصار والعدوان. توارت تحت عنوان «الحرب على الإرهاب» كل قيم الدين والرحم والتاريخ والجوار ، وعربد السيسي في سيناء كلها قتلاً وحرقاً، مدمّراً قرى بأكملها، ومهجّراً الآلاف من سكانها، ليخلو بقطاع غزة، الذي أراد له أن يكون مصدر الشر كله؛ إذ تديره حركة إسلامية ضاربة في الجذور، جمعت بين خطيئتين لا تُغتفران: انتماء إلى مدرسة الإخوان المسلمين، ومقاومة للاحتلال الإسرائيلي ببسالة واقتدار؛ وكفى بهما إثماً مُبيناً. غمرت النشوة روح الجنرال، وهو يرى قرى السيناويين البسطاء تتحول إلى أنقاض بفعل طائرات الأباتشي التي زوّدته بها الولايات المتحدة الأميركية (التي يُقال، ويا للسخرية، إنها تدعم الإخوان، وإنها هي التي أتت بهم إلى السلطة ذات يوم). يستأسد الطاغية على الضعفاء في سيناء وغزة محتجاً بحماية «الأمن القومي» لمصر، وهو الذي مازال يقف صاغراً ذليلاً أمام استمرار إثيوبيا في بناء سدّ تشيّده على منابع النيل، وتهدِّد به أمن مصر المائي على نحو غير مسبوق.
خلال عام 2015، لم يفتح نظام السيسي معبر رفح سوى 19 يوماً (فُتح في عهد الرئيس مرسي نحو 290 يوماً سافر خلالها 153,000 مواطن، لكن مازال أقوام يردّدون: «صديقي العزيز بيريز»!).
في يوم الخميس الماضي، قررت سلطات الانقلاب فتح المعبر يومين فقط، وأخبرني ناشط غزّي في الوسائط الاجتماعية أن سبب الفتح كان رغبة المخابرات المصرية في الحصول على أموال مقابل إدخال عدد من ذوي الحاجات أو مرضى السرطان. عبر 500 شخص يوم الخميس، وأصر مسؤولون في غزة على مضاعفة العدد يوم الجمعة مقابل دخول 270 شخص يملكون الأموال لدفعها إلى المخابرات، وهو ما استجابت له. ويقول الناشط الذي رفض الكشف عن اسمه إن قيمة ما دفعه الشخص الواحد تراوحت بين 3000 إلى 5000 دولار أميركي. في النهاية، لم يدخل مصر سوى 15,00 من أصل 25,000 هم في حاجة شديدة إلى العبور، منهم من عائلته في رفح، وانقطعت به السبل في غزة (يروي محمد عمر في موقع «ميدل إيست آي» (6 آب/أغسطس 2015) مأساة مواطن غزّي اسمه أحمد أبو رتيمة، وأمه في الجانب المصري، وكان يرى منزلها من فوق التلال حتى اختفى ولم يعد له أثر، بعد أن سوّى به جنود السيسي الأرض).
يمارس السيسي (بالتعاون مع نتنياهو وعباس) خنق 1.8 مليون شخص في قطاع غزة بطريقة غير إنسانية، ما يدفع كثيراً من أهل القطاع إلى الرغبة في الخروج. غزة أكبر معتقل جماعي على وجه الأرض؛ السجن الوحيد المفتوح على الهواء الطلق؛ شاهد على سقوط الحضارة المعاصرة وارتهان وسائلها لغاياتها الدنيئة. منذ أن اختار الفلسطينيون حركة حماس ممثلة لهم عام 2006 في انتخابات حرة نزيهة، قرر «العالم الحر» معاقبتهم على اختيارهم الديموقراطي بحرمانهم من أساسيات الحياة.
يقول نوعم تشومسكي إن «الخبراء الإسرائيليين حسبوا بالتفصيل وعلى وجه الدقة كم يحتاج أهل غزة من السّعْرات الحرارية ليبقوا أحياء». نظام السيسي في مصر جزء من هذا الحصار، وهو يبالغ في تشديده ليحظى بالرضا الإسرائيلي والمباركة الأميركية.
وبموازاة الحصار أو الإغلاق، تجري شيطنة أهل غزة بوصفهم مجتمعاً من الأشرار الناكرين تضحيات مصر من أجل فلسطين، وشيطنة إدارتها بوصفها جماعة «متطرفة» تريد تأسيس «إمارة إسلامية» تلتهم سيناء، وتثير القلاقل في مصر، فاجتمعت حرب الدعاية مع حرب التجويع والإذلال، وما كان لنظام السيسي أن يبرّر حربه على قطاع غزة لولا آلة دعايته المتجردة من كل حس أخلاقي وإنساني. لكن جريمة إغلاق معبر رفح لا يتحمل مسؤوليتها الانقلاب «الإسرائيلي» في مصر وحده. الدول الغربية والعربية مسؤولة عن استمراره، لاسيما تلك التي مابرحت تقدّم الدعم المالي والمعنوي للانقلاب. تلك بدهية تدركها الشعوب، ولا ينساها التاريخ.