هدوء لا يشوبه صوت، الجميع قلقٌ من حوله خشية ازعاجه أثناء كتابة مؤلفاته وغوصه بأعماق الكتب العلمية والثقافية، وفي صدر بيته استقبلنا على مكتبه مرتديًا نظارته ومن حوله عشرات الأوراق.
استأذنا ضيفنا أن يعطينا قلبه لدقائق الحوار؛ بعيدًا عما تظهره تصريحاته السياسية من قوّة، فكان حديث "الرسالة" مع القيادي في حركة المقاومة الإسلامية حماس، الدكتور محمود الزهار، من القلب.. إلى القلب، وتجوّلنا في دهاليز ذاكرته بأزقة مصر، وزنازين الاعتقال، والابعاد في مرج الزهور، وبيته الذي زيّن بشكلٍ هندسي يعكس مدى ذوقه في وضع الأثاث المناسب؛ في المكان المناسب.
دار حديثنا مع الدكتور الزهار، من الظهر حتى صلّى بنا إمامًا بصلاة العصر في مسجد الرحمة جنوب مدينة غزة، وما بين السؤال والجواب شغفٌ لاستماع تفاصيل حياته التي جسّدت شخصيته المعروفة بـ"جدّيتها المطلقة".
رياح مصر
كانت أولى محطّات حياته ما قبل النكبة الفلسطينية عام 1948، بأعوامٍ قلائل، يخبرنا: "اسمي محمود الزهار، ولدت قبل النكبة بثلاث سنوات في مدينة غزة من أبٍ فلسطيني وأم مصرية".
حكاية الغربة التي عاشها الزهار في مصر، بدأت تفاصيلها في صبيحة عام (1947)، بعدما سافر رب الأسرة إلى مدينة "الإسماعيلية" في مصر، لتوفر فرصة عملٍ في المدينة، وبقيت العائلة مغتربة حتى عادوا لتدريس أبنائهم في مدارس غزة عام (1956)؛ لعدم قبول المدارس المصرية تعليم الفلسطينيين آنذاك.
وما إن تحدثنا مع ضيفنا عن الإسماعيلية وطفولته، بدا كأنّ المشهد امتثل أمامه، وأخبرنا أنه كان مؤذنًا لمسجد "الرحمة"، وعمره آنذاك لا يتجاوز (12عامًا).
"اعتقلت وعذبت بسبب علاج رائد العطار من رصاصات السلطة
ومن محاسن الصدف أنّه يجاور حاليًا مسجدًا يسمّى "الرحمة" في مدينة تل الهوى جنوب غزة، وكلّما هُيِأت له فرصة سفر، لم يتوانَ في زيارة الإسماعيلية وشوارعها ومساجدها، والتعرّف على من كانوا في جيله وحيّه.
"درست الابتدائية في مدرسة الزيتون، ثم أكملت التعليم في مدرسة الهاشمية، وحصلت فيها على المرتبة الأولى، ثم واصلت دراستي الثانوية في مدرسة فلسطين، حتى انتقلت لدراسة الطب في جامعة عين شمس بمصر عام 1965"، يقول الزهار.
وعن مرحلته الأساسية أخبرنا حجم تعلّق قلبه برياضة كرة القدم، وبقي يمارسها باحترافية، حتى تمكّن من تسديد الأهداف من منتصف الملعب، واشتهر بذلك"، ويشير إلى أن شغفه بالكرة دفعه إلى تأسيس "نادي الزيتون" لكرة القدم بعد عودته من رحلة الدراسة بمصر عام (1973).
وفي بداية دراسته الجامعية، تصاعدت وتيرة الأحداث بين العرب و"الإسرائيليين" حتى وقعت حرب (1967)، فطلب مجموعة فلسطينيين مغتربين -من بينهم الزهار- التدريب العسكري، والمشاركة في الدفاع عن تراب بلادهم، لكنّ الجيش المصري رفض المقترح، وطمأنوهم أنّهم سيتمكنون من هزيمة (إسرائيل).. "ولكنّهم للأسف هزموا".
"عدت إلى غزة عن طريق الصليب الأحمر عام (1972)"، يقول الزهار، ويشير إلى أنّه عمل بعد عودته عامين في مستشفى ناصر بخانيونس، ثم سافر لدراسة الماجستير في الجراحة العامة في مصر، وعاد إلى أرض الوطن يمارس مهامه الطبية.
يضيف: "عملت في قسم الجراحة حتى عام 1980، ثم انتقلت إلى مستشفى الشفاء، وتمّ طردي منها نتيجة مواقف نقابية ضد الاحتلال، بعد تأسيس الجمعية الطبية عام 1977.
وكان قياديون في حماس (فيما بعد) أبرز المنتسبين للجمعية، ومنهم "الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وإبراهيم المقادمة، ويوسف عوض الله، وأبو محمد اليازوري"، وتولّى الزهار رئاستها.
ثورة المساجد
سارت الأحداث بضيفنا حتى عام 1982، عقب "ثورة المساجد"، فقد عمِل إحصائية آنذاك تدور حول "كيف تقتل (إسرائيل) الفلسطينيين عمدًا"، ما أدى إلى أضرار حقوقية بحق الكيان، وجرى على إثره تشكيل مجلس تأديب له، وعوقب بفصله من الصحة.
"شبحت أربع مراتٍ من أجهزة السلطة وتكسرت أطرافي
ومن ضمن الشروط التي سعت الثورة إلى تحقيقها آنذاك، "الإفراج عن المعتقلين في سجون الاحتلال، ووقف الضريبة المضافة، وتحسين الخدمات الطبية للمواطنين، وتحسين المستوى المعيشي للطبيب الفلسطيني"، يتابع ضيفنا: "تبنينا مشروعًا وطنيًا، ولاقى قبولًا لدى الناس، وحققت الثورة مرادها".
وعن انتمائه لحركة "حماس"، يخبرنا بالبذور الأولى، حينما كان يجري "رئيس الجمعية -الزهار" لقاءات سرية"، مع مؤسس حركة حماس، الشيخ أحمد ياسين، حتّى تمّت البيعة عام (1982) على الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين.
"كنت ألتقي الياسين سرًا خشية من تأثير ذلك على عملي كرئيس للجمعية، لأنّها كانت تضم جميع الألوان"، ويتابع مفتخرًا: "وفي عام 1985 انتهت رئاستي منها، وسخّرت جهدي وطاقتي للحركة".
حياة السجون
كانت عيادة الزهار هي الملجأ الوحيد الذي من خلاله يداوي مرضاه، حتى جرى اعتقاله بـ"الضربة الأولى لحماس" عام (1989)، لكنّ الاحتلال لم يتمكن من نزع اعتراف يدينه، فحاكمه إداريًا، وخرج بعد أشهرٍ معدودات.
بعد خروج الزهار من السجن، سعى إلى ترتيب أوراق التنظيم من جديد، وتسيير المسيرات، وغرس فكرة العمل المسلح في ذهن الجيل.
"تمّ إبعادنا بقرار سياسي لتنفيذ مخطط أوسلو"، يقول الزهار ويوضح أنّ إرهاصات جرت بين حركة "فتح" والكيان (الإسرائيلي) قبل مؤتمر مدريد لمدة عامين (1988-1990)، وعمل الاحتلال روابط مع أمريكا للحديث مع شخصيات اعتبارية، وتصويرها أنّها ممثلة للشعب الفلسطيني.
رفض الزهار اللقاء مع الوسيط الأمريكي، "لأنّ التحركات كانت مشبوهة، تمثلت في صناعة قيادات السلطة الفلسطينية"، ويضيف: "بعدما حلّت شخصيات أوسلو على المنطقة؛ عملوا على فكرة تفريغ غزة من القيادات".
وفي مساء يوم ماطر أواخر ديسمبر وصل الزهار اتصالٌ هاتفي وطلبوا منه أن يرتدي ملابسه ويذهب إلى سجن "السرايا" وسط المدينة.
وجع الإبعاد
كانت التساؤلات تشغل فكر الزهار، ولكن؛ تم تنفيذ الأوامر (الإسرائيلية)، يكمل ضيفنا ما حصل معه: "وصلت إلى السرايا، فنقلونا إلى "غرفة الترحيل"، فوجدت قيادات حماس جميعهم بداخلها، حتى أخبرنا شاب أنّ هنالك أنباء تفيد باحتمالية ابعادنا".
تبادل من في الغرفة التوقعات، حتّى وصل ضابط (إسرائيلي) وعناصره؛ قيّد أيديهم وأرجلهم، وأجلسهم في شاحنات ترحيل، وغطّى رؤوسهم بـ"كيس" وأخفضها حتى لا يتمكنوا من معرفة المكان.
"عقدت لقاءات سرية مع الشيخ ياسين، وبايعته عام (1982)
يتابع الزهار: "تحركت بنا الشاحنات، وبقيت تسير ليومين متواصلين دون السماح لنا بتناول الطعام أو قضاء حاجتنا"، ويشير إلى أنّه وبعد طول انتظار تمّ السماح لهم بالنزول لقضاء حوائجهم "واقفين، تحت المراقبة"، إلّا ضيفنا، تمّ منعه.
وعن سبب المنع يخبرنا عائدًا بذاكرته إلى الوراء؛ فترة اعتقال الشيخ أحمد ياسين نهاية ثمانينات القرن المنصرم، كنت قد طرحت مبادرة، بموجبها يتم إطلاق سراح الشيخ ياسين بسبب تدهور وضعه الصحي وذلك بعد عرضه على لجنة طبية مختصة.
يكمل ضيفنا حديثه عن لحظة وقوف الضابط (الإسرائيلي) أمامه، ومعرفة أنّه صاحب المبادرة، فمنعه، لكن تمّ السماح له بعد فترة من الزمن، بعدما كاد يغمى عليه.
عاد الجميع إلى داخل الشاحنات، وسار ضابطٌ من جنبهم، ووضع في جيب كلِ واحدٍ منهم خمسين دولارًا أمريكيًا، فتيقنوا من قرار الإبعاد، حتّى توقّفت حركة المسير وأنزل العساكر المبعدين بالضرب؛ تحت المطر الشديد، والبرد القارس.
كانت الوجبة الوحيدة التي تناولوها خلال إبعادهم، كسرة خبزٍ، و"مثلث جبنة" صغير، لكل واحدٍ منهم، وما إن وصلوا إلى "مرج الزهور"، حتى وصلتهم المساعدات من قوات "لحد" اللبنانية.
تيقن الجميع أنّ مرحلتهم باتت أشد صعوبة، فتمّ تقسيم المهام فيما بينهم إلى لجان مختصة؛ لتنظيم العمل، وإيصال الرسالة إلى العالم الخارجي.
"أصبحت تتوالى علينا الوفود، وتم تكليفي بمسؤولية اللجنة الإعلامية.. وكنا نعطي المعلومات، ونوضّح الصورة"، يقول الزهار، ويؤكد أنّ الحركة وثّقت الحدث بتفاصيله صوتًا وصورة".
وفي صبيحة الرابع من ديسمبر من العام 1993، ومع قرب موعد العودة إلى أرض الوطن وانتهاء فترة الإبعاد؛ جهّز الزهار وعبد العزيز الرنتيسي أنفسهم ونزلوا إلى سوريا، والتقوا بوزير الإعلام آنذاك "محمد سلمان"، وطلبا منه أن تحتضن دولته (16 قياديًا من حماس)، خشية من إعادة اعتقالهم من (إسرائيل) بعد انتهاء مدّة الابعاد، فرحّبت دمشق بالمقترح، وتم تنفيذه فورًا.
وبعد عامٍ من مرارة الإبعاد، تمّ إعادة الزهار إلى غزة، مرورًا بالتحقيق في "النقب"، يتابع: "وصلت إلى القطاع نهاية (1993) وقيادة الحركة منها بقي في السجون لإكمال محكوميته، وآخرون خرجوا وعملنا معًا لإعادة بلورة نشاط الحركة".
شبح السلطة
عامانِ على نشاطات الزهار بعد الإبعاد وبعدما فرضت السلطة سيطرتها على القطاع أثناء رحلة قيادات حماس إلى "مرج الزهور"، حتّى اعتقلته أجهزة السلطة عام 1996، واقتيد إلى مركز "السرايا" وسط غزة.
عقدت اتفاقا مع الجهات السورية لاستيعاب قيادات من حماس في أراضيها
"معاملة أقبح من الاعتقال الإسرائيلي"، يقول الزهار، واصفا ما ألمّ به من تعذيب في سجون السلطة: "ضربونا بسلك الكهرباء المجدول، والخيزران، ضربا مبرحا حتى الغيبوبة".
يتوقف قليلًا عن الحديث، ثم يكمل وعيناه تفيضان قهرًا، "أربع مراتٍ جرى شبحي من أجهزة السلطة الفلسطينية، ولم أعِ إلّا اثنتين منها، وبعدما استيقظت وجدت أطرافي جميعها مكسّرة، وجسدي حالك السواد من التعذيب، ودمي يملأ الجدران".
لم تتوقف أصوات مسجّلات الأغاني طيلة تعذيب الزهار، وكلّما نادى أحدهم على الآخر، شتمه بأقبح العبارات، وفي أعلى الزنزانة علقوا جميع أدوات الشبح، لتشكّل تعذيبًا نفسيًا للمعتقل.
ومن شدّة التعذيب المستمر الذي لحق بضيفنا، أصابه الإعياء وفقدان السيطرة على السير، وازرقاق في شفتيه، حتى توقّع المعذبون أنّه سيفارق الحياة في غضون ساعات، فجرى نقله إلى مستشفى الشفاء، وفي التقرير وضعوا الاسم "مجهول".
وجرى الافراج عن الزهار في حينها، وتلقّى علاجه خارج أسوار المعتقلات، حتى امتثل للشفاء وأكمل مسيرته الدعوية سرًا وجهرًا، واستمر في الدوام داخل عيادته بحي الزيتون، حتى وصله شابٌ ينزف نتيجة رصاصةٍ اخترقت جسده قبل الانتفاضة الفلسطينية الثانية بـ(6 أشهر).
سجنٌ لرفض الخيانة
تعرّف الزهار على المُصاب، فوجده القيادي في كتائب القسام "رائد العطار"، يقول: "وصلني العطّار مُصابًا برصاصات السلطة والدم ينزف من جسده، وبعد عشرين يومًا تم اعتقالي على خلفية علاجي له".
أعادت أجهزة السلطة الكرّة مرة أخرى لنزع اعترافاتٍ من الزهار، وبدأوا في مرحلة التعذيب، وفي الصباح سأله أحدهم: "أنت عارف ليش جاي هان"، فأجابه متهكمًا: "لا.. عرّفني"، فأعاد المحقق السؤال: "من آخر شخصٍ عالجته في عيادتك"، ولمّح إلى العطّار، فأجابه الزهار: "مريض وصلني وعالجته".
كان الضرب الذي يتلقاه الزهار نتيجة عدم اتصاله في أجهزة السلطة، والتبليغ عن العطّار أنّه وصلهم مصابا برصاصهم، لكنّ ردّه كان للمحقق: "التبليغ عمل العملاء لـ(إسرائيل)، ولست من أبلغ عن المجاهدين وأكون عميلًا"، فزاد صراخ الضباط عليه وتعذيبه، ثم نقلوه إلى زنزانة مكث فيها (6 أشهر).
داخل أروقة الزنزانة، منعته السلطة من التواصل مع العالم الخارجي، حتّى زاره أحد الضباط، وسأله عن رؤية حماس، فأخبره الزهار: "أنتم تضغطون علينا، ونحن نقابله بالضغط على (إسرائيل)، وأنتم تطلقون النار علينا، ونحن نرد على (إسرائيل)، وإن انقلبنا على ظلمكم، سيكون الشعب معنا".
وفي ليلة استيقظ الزهار على حلمٍ، يرويه لنا: "أعطاني أحدهم في المنام مفاتيح سيارتي، وقال لي: خذ هذه بعد العشر الصعبات، فأخذها واستيقظ من النوم"، وفي الصباح، حضر اليه عسكري وقال له: "جهز نفسك"، وفسّر ضيفنا الحلم أنّه سيتم الافراج عنّه في عاشر يومٍ من بعد صيامه تسعة أيام قبل عيد الأضحى المبارك، وتنسّم الحرية؛ "بعدما أصدر عرفات قرار عفو"، وتحققت الرؤية.
وفي نهاية جزئنا الأوّل مع ضيفنا، طلبنا منه أن يفرّق بين الاحتلال والسلطة في التحقيق والاعتقال والتعذيب، فأجاب: "(إسرائيل) تعتمد على نظام وقوانين معمول بها في سجونها، بينما سجانو السلطة؛ إن كرهوك؛ كسّروا عظامك وعذبوك، وأنت تدخل المعتقل وتخرج منه دونما تعلم لماذا جرى اعتقالك".
إلى هنا ينتهي حوار "الرسالة" في جزئه الأوّل مع الدكتور محمود الزهار، ويخبرنا في الجزء الثاني عن الانتخابات التشريعية، وجولته في الدول العربية، وعائلته ومحاولات الاغتيال، وحياته في الأدب، ومؤلفاته.