اندفعت الجماهير إلى الميادين العربية قبل سنوات خمس للمطالبة بالحرية والعدالة والديمقراطية وكرامة الإنسان. بدا ذلك في حينه مفاجأة لبعض المراقبين في أوروبا، وكأنّ المتوقع أن تبقى الشعوب في خضوع أبدي. ثم وقعت الإشادة في أوروبا بالحدث التاريخي بعد أن أزاحت الشعوب الحاكم المستبد في تونس ونظيره في مصر في أسابيع قليلة.
تم إطلاق وصف "الربيع العربي" على التحولات الجارية آنذاك. كان وصفاً جميلاً حقاً رغم أن الربيع لا يدوم طويلاً، مثل "ربيع براغ" الذي تم سحقه في شهور معدودة من سنة 1968.
لم يتماسك الموقف طويلاً، فقد انهارت خلال سنتين آمال التحرر العربي من الطغيان، أما أوروبا فسرعان ما تجاهلت التزاماتها بدعم الديمقراطية والحرية وعادت أدراجها إلى معزوفة دعم الأمن والاستقرار.
بعيداً عن الإشادة بالربيع العربي؛ لم تصدر مواقف أوروبية جادة ضد الانقضاض اللاحق على التجربة الديمقراطية الهشة، فعمّ الصمت على ما يحدث إلاّ من بعض التعبيرات الخجولة التي لا ترقى إلى مستوى الحدث. وما فهمته الأطراف العربية سنة 2013 تحديداً هو أنّ أوروبا لا تمانع بأن يجري سحق الديمقراطية، أو أنها لن تعترض بجدية على الفظائع ولن تفرض عقوبات. ومع هذا الضوء الأخضر واصلت الدبابات طريقها في قلب المدن فوق الأشلاء.
وقعت الإطاحة برايات الديمقراطية والمشاركة الشعبية، وجرى الزج بالذين انتخبهم الشعب ديمقراطياً في السجون، أو تمت تنحيتهم عن الحكم، وصعدت تجارب الاستبداد العسكري بقوة، وأعقبتها رايات "داعش" ودعايتها المثيرة للهلع.
ما إن تم إنهاء موسم الديمقراطية؛ حتى أصبح البساط الأحمر مخصصاً في عدد من عواصم أوروبا لاستقبال قادة الاستبداد الجديد، أو تم اعتبارهم شركاء المرحلة، رغم بيانات التنديد بانتهاكاتهم الجسيمة، ومنها أحكام الإعدام الجماعية التي يصدرونها بحق المعارضين مثلاً.
لا يتردد بعض المسؤولين الأوروبيين بالقول إنّ رموز الاضطهاد والطغيان قد عادوا شركاء أوروبا في مواجهة الإرهاب والتطرف، كما كان عليه الحال قبل الربيع العربي. ومع هذا الدور الوظيفي يبقى الاستبداد بحاجة إلى استمرار الإرهاب الذي يضمن له استمرار الدعم الغربي والتغاضي عن مطالب الإصلاحات.
ما ينبغي قوله في زحام الأحداث العربية المتلاحقة اليوم هو أنّ المراهنة على الاستبداد العسكري تبقى خاسرة من وجوه متعددة. فالحكم الفاسد الذي يعتمد على إشاعة الرهبة والفتك بالمعارضين ومطاردة الحركات الشبابية وإخراس الإعلام الحر؛ لا يمثل خياراً في القرن الحادي والعشرين. كما يعجز هذا النمط من الحكم عن تحقيق التنمية أو إنجاز الإصلاحات الملحّة، وهو ما يشيع مزيداً من الغضب والإحباط والتطرف والانفجارات الاجتماعية في مجتمعات معظمها دون الخامسة والعشرين من العمر.
لم يصل المشهد العربي إلى محطته الأخيرة، فالاستبداد العسكري لم يجلب الأمن والاستقرار والرفاه بل تسبّب بمزيد من الاضطرابات والأزمات ودفع دول المنطقة إلى شفير الهاوية، وقد يحوِّل مزيداً منها إلى دول فاشلة. ليس بوسع أوروبا أن تكون بمنأى عن التفاعلات في جوارها الجنوبي، فالعالم يتقارب وانعكاسات الأزمات لا تتوقف عند الحدود، وهو ما يؤكد أهمية المراجعة الجادة للاستراتيجيات والسياسات وخوض نقاش عام موضوعي بشأنها.
إذا كانت أوروبا حريصة على كسب العقول والقلوب في العالم الإسلامي خلال حملتها ضد الإرهاب والتطرف، فإنّ ذلك لا يمكن أن يتحقق عبر تصريحات جوفاء تتغنى بالديمقراطية بينما تتحدث السياسات الواقعية بلغة أخرى. قد يغيب الربيع، لكنه قادر على العودة مجدداً، لكنّ ذلك يتطلب زراعة الورد لا الأشواك.