في الوقت الّذي تشهد فيه الأراضي الفلسطينيّة مواجهات ساخنة بين المتظاهرين الفلسطينيّين والجيش الإسرائيليّ، يخوض الجانبان خارج حدودهما، وتحديداً في القارة الأوروبيّة مواجهة من نوع آخر، من خلال حركة المقاطعة الدوليّة لإسرائيل، فهي مواجهة لا يسقط فيها ضحايا، ولا تطلق فيها النيران، لكنّ الإسرائيليّين يشعرون بأنّهم باتوا يخسرون فيها أمام الفلسطينيّين الّذين لا يمتلكون أيّاً من الأسلحة الّتي تحوزها (إسرائيل).
وجاء قرار المفوضيّة الأوروبيّة بوضع ملصقات على منتجات المستوطنات الإسرائيليّة في الأراضي المحتلّة، ليسلّط الضوء على نشاط الحركة العالمية لمقاطعة (إسرائيل)، وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها، وتعرف اختصارا BDS، وتأسست في الضفة الغربية وقطاع غزة عام 2005.
ربّما يشير قرار الاتحاد الأوروبيّ إلى حجم الدور الّذي يقوم به الفلسطينيّون في القارّة الأوروبيّة لتفعيل الحركة العالمية لمقاطعة (إسرائيل) المعروفة باسم BDS، في مختلف القطاعات: الأكاديميّة، الإقتصاديّة، والثقافيّة، وقدرة المؤسّسات الفلسطينيّة على إقامة علاقات قويّة مع دوائر صنع القرار في الاتحاد الأوروبيّ، سواء أكان في البرلمان الأوروبيّ أم الجامعات أم المؤسّسات المختلفة، وهو ما تجلّى في زيادة نشاطات المقاطعة المتلاحقة لإسرائيل في هذه القارّة.
يمكن الحديث عن نشاطات عديدة لمقاطعة (إسرائيل) في أوروبا عام 2015، سواء على صعيد المقاطعة الأكاديمية والثقافية، حيث انضمَّ اتحاد الطلبة في بريطانيا ويضم حوالي 7 ملايين طالب لمقاطعة (إسرائيل)، وإلغاء بعض الحفلات الفنية الأوروبية في (إسرائيل)، أو المقاطعة الاقتصادية، حيث أعلن المكتب المركزي الإسرائيلي للإحصاء أن اقتصاد (إسرائيل) خسر نتيجة المقاطعة الأوروبية للمنتجات الزراعية من المستوطنات الإسرائيلية ما يُقدّر بـ6 مليارات دولار عامي 2013 و2014، وقد تصل الخسائر لـ9,5 مليارات دولار نهاية 2015.
الفلسطينيّون في أوروبا والولايات المتّحدة يشاركون في نشاطات المقاطعة المركّزة في الجامعات الأوروبيّة والكنائس، وينخرطون مع المؤسّسات الأوروبيّة والأميركيّة المنادية بمقاطعة (إسرائيل)، وشكّلت المواقف الأوروبيّة الداعمة نسبيّاً لفلسطين نقطة قوّة لنشطاء المقاطعة، وهم في غالبهم غير منتمين للأحزاب السياسيّة، لكنّ السلطة الفلسطينيّة تحاول إحباط جهود المقاطعة بالأنشطة التطبيعيّة مع الإسرائيليّين.
وشهدت الأشهر الأخيرة نشاطاً متزايداً لفعاليّات الحركة العالمية لمقاطعة (إسرائيل) BDS، وانعكس آخرها بإعلان جمعيّة علماء الأنثروبولوجيا الأميركيّة مقاطعة المؤسّسات الأكاديميّة الإسرائيليّة، وسبقها توقيع 343 أكاديميّاً بريطانيّاً يمثّلون 72 جامعة ومؤسّسة تعليميّة بريطانيّة على عريضة لمقاطعة (إسرائيل).
ورغم ما يعتبره الفلسطينيّون في أوروبا من نجاحات حقّقوها في مقاطعة (إسرائيل) داخل أوروبا، لكنّ هناك إشكاليّات حقيقيّة تواجههم، ومنها: قلّة الموارد الماليّة، وعدم تبنّي السلطة الفلسطينيّة لجهودهم، وحال الانقسام السياسيّ الفلسطينيّ، وبقاء النفوذ السياسيّ لإسرائيل داخل العواصم الأوروبيّة، رغم بعض إخفاقات (إسرائيل) في الآونة الأخيرة.
تتصاعد مقاطعة (إسرائيل) في أوروبا عبر خطوات تحاكي ما كان يوجّه ضدّ نظام الفصل العنصريّ في جنوب إفريقيا الأبارتهايد، مثل عدم تعامل الجامعات الأوروبية مع نظيرتها الإسرائيلية، مقاطعة البضائع الإسرائيلية، الملاحقة القانونية للضباط الإسرائيليين فور وصولهم أراضي الاتحاد الأوروبي بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين، ورغم وجود مساهمة لفلسطينيّين في أوروبا في الحركة العالمية للمقاطعة، لكن لا تتوافر حولها إحصاءات رسميّة عن نسبتهم بهذه النشاطات، رغم نجاحهم الاستراتيجيّ بقدرتهم على فلسطنة حركة المقاطعة، عبر انتشارها في دول ومدن أوروبيّة لا يوجد فيها فلسطينيّون، وتنظيم زيارات فلسطينيّة لبعض صنّاع القرار الأوروبيّ لتعميق توجّهاتهم نحو المقاطعة، وتوسيعها ضدّ (إسرائيل).
ويمكن القول إنّ حركة المقاطعة في أوروبا بدأت تسبّب إحراجاً وإرباكاً للإسرائيليّين على المستويات الثقافيّة والفكريّة والأكاديميّة، وتبيّن أنّها حركة مجدية، وأتت بنتائج مهمّة، وهو ما استنفر الحكومة الإسرائيليّة، في محاولة منها لوقف تمدّد حركة المقاطعة، ووصولها إلى قطاعات أكاديميّة وإقتصادية متزايدة.
تطورت تجربة المقاطعة ضدّ (إسرائيل) خلال الأعوام الأخيرة، وتتميّز بتمدّد عبر القواعد الجماهيريّة في المدن الأوروبيّة وقطاعات متعدّدة كالنقابات والإتّحادات والجامعات والجمعيّات العموميّة للجمعيّات التعاونيّة الاستهلاكيّة والصناديق الاستثماريّة والبلديّات، وتتوسّع باضطراد.
جهود المقاطعة استهدفت المؤسّسات الأكاديميّة الإسرائيليّة بسبب تواطؤها مع سياسات الاحتلال ضدّ الفلسطينيّين، لكنّها تفتقر للدعم الرسميّ الفلسطينيّ لهذه الجهود، رغم استشعار (إسرائيل) لحال الخطر الشديد من اتّساع رقعة المقاطعة، ونقل معالجتها من وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة إلى وزارة الشؤون الاستراتيجيّة.
يعتقد الفلسطينيّون أنّ التفوّق العسكريّ الإسرائيليّ عليهم قد يمنح الجيش الإسرائيليّ أفضليّة ميدانيّة داخل الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، في حين أنّ هذه القوّة التسليحيّة لإسرائيل تبدو أقل قدرة عن مواجهة الفلسطينيّين الّذين يخوضون حملات المقاطعة ضدّ (إسرائيل) داخل القارّة الأوروبيّة. وخلافاً للموقف الشعبيّ الفلسطينيّ في دعم جهود المقاطعة، فإنّ هذه الجهود لا تلقى تشجيع السلطة الفلسطينيّة، سواء لأنّها لا تؤيّد مقاطعة (إسرائيل)، أو لأنّها تخشى من العقوبات الإسرائيليّة ضدّها إن أيّدت تلك المقاطعة.