يشتبك الكاتب الفلسطيني أسامة العيسة في روايته "قبلة بيت لحم الأخيرة" بقسوة مع المكان والإنسان، في محاولة منه لتوثيق حقبة من الزمن شهدت تغيرات تدريجية، خاصة في صفوف اليسار الفلسطيني، لكنها جوهرية وكبيرة ألقت بظلالها على قضية يفترض أن تكون ذات أولوية للفلسطينيين وغيرهم.
ففي هذه العمل السردي -وهو جزء من مشروع رواية المكان والزمان والإنسان الفلسطيني- يقدم الكاتب مدينة بيت لحم عبر سنوات طويلة وحقب عديدة، لكن بطرق جديدة يحاول من خلالها استكشاف المدينة التي يقول إنها صدّرت السلام للعالم، لكنها لم تنعم حتى الآن بالسلام.
واختار العيسة -وهو من مخيم الدهيشة في بيت لحم وحاصل على جائزة الشيخ زايد للكتاب العام الماضي- معصرة قديمة تم ترميمها مؤخرا في قلب الخليل المحاصر لإشهار روايته، في تأكيد منه على دور المكان الذي يجب أن يلعبه الأدب في التحام مع المقاومة.
في هذه الرواية التي يقتسم فيها المكان دور البطولة مع كثير من الشخوص، يعالج العيسة بإسهاب الحقبة الوطنية داخل الجامعات الفلسطينية في ثمانينيات القرن الماضي التي شهدت تجاذبات وخلافات وصلت أحيانا حد الشجار والاقتتال، مرورا بسنوات من النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي لم تكتب ولم يوثقها أحد.
يفرد الكاتب مساحة واسعة للحديث عن بطل أمضى عشرين عاما في السجون، متحدثا عن عالم السجن وخفاياه، ثم الصدمة بعد الإفراج عنه حين نُحيت المبادئ وتقدم المال والأعمال والمصالح، وتحول قادة النضال في زمنه إلى مديرين في منظمات أهلية تتلقى دعما خارجيا، وأحيانا باتت أدوات للتطبيع مع المحتل.
بشكل أو بآخر يتحدث العيسة عن هزيمة اليسار الفلسطيني، وكيف تحول شخوص من مناضلين كبار كانوا يتصدرون الصفوف في الثورة، ثم باعوا أنفسهم للمنظمات الأهلية في محاكمة قاسية لهم ولفصائل منظمة التحرير الفلسطينية الأخرى.
يحاول الكاتب في روايته وبعينه الصحفية تسليط الضوء على شخصيات ربما لم تأخذ حقها الكامل في وعي الإنسان الفلسطيني، كما يسلط الضوء على تغييرات حصلت لا يلمسها إلا من غاب طويلا في السجن أو في الغربة.
يضع العيسة أصبعه على الجرح حين يعالج ظواهر سلبية سرت في المجتمع باسم الثورة والنضال، فجرّيس يبلغ ضيفه رائد العائد للتو من غربة طويلة اعتزامه اللحاق بعائلته إلى كندا أسوة بمئات الآلاف من المسيحيين المهاجرين، ثم يشرح له كيف تغيرت طباع الناس والألفة والتعايش في مهد المسيح.
يسهب جريس في تشخيص الواقع المؤلم وانقسام الفلسطينيين إلى تيارات وجماعات وأطراف، وتغلغل الفساد في هياكل السلطة الفلسطينية وتدفيع الناس أتاوات باسم المقاومة، وهو ما دفعه للتصويت على حركة حماس الإسلامية مع أنه مسيحي.
يلخص الروائي الفلسطيني إبراهيم جوهر وصفه للرواية في أربع كلمات قائلا إنها "موجعة وتعري وتفضح وتشخص"، مشيرا إلى اعتماد الكاتب على التاريخ ليكتب روايتين متداخلتين بأسلوب المونتاج السينمائي.
ويضيف أن العيسة يتناول مدينة بيت لحم بتاريخها وعمارتها وحاراتها من جهة، والراوي رائد الحردان وعلاقته مع سميرة المثقفة اليسارية التي آلت إلى جمود بعد تضارب المبادئ: بين مناضل أمضى عقدين في السجن، وسيدة كانت لا تقبل بأقل من فلسطين من البحر إلى النهر وأصبح النضال بالنسبة لها هو ما تحققه على جبهة الجندر.
وفي تعليقه على الرواية لفت الناقد عزيز العصا إلى تضمين الرواية جانبا من التاريخ المعاصر لفلسطين ومدينة بيت لحم، مشيرا إلى اعتماده أكثر من بُعد: تاريخي، وطني، عاطفي، وغيرها في سرد ناتج عن تسلسل الهويات بدءا من العهد العثماني، مرورا بالانتداب البريطاني، ثم الحكومة الفلسطينية ثم الأردن وإسرائيل، وأخيرا السلطة الفلسطينية.
الجزيرة نت