قائمة الموقع

علي محطة قطار سقط عن الخريطة

2010-05-16T08:39:00+03:00
الشاعر الفلسطيني المرحوم/ محمود درويش في احدى إلقاءاته الشعرية المميزة

علي محطة قطار سقط عن الخريطة

 

الشاعر/ محمود درويش

عُشْبٌ، هواء يابس، شوك، وصبار
علي سلك الحديد. هناك شكل الشيء
في عبثية اللاشكل يمضغ ظِلَّهُ...
عدم هناك موثق.. ومطوَّقٌ بنقيضه
ويمامتان تحلقان
علي سقيفة غرفة مهجورة عند المحطةِ
والمحطةُ مثل وشم ذاب في جسد المكان
هناك أيضاً سروتان نحيلتان كإبرتين طويلتين
تطرّزان سحابة صفراء ليمونيّةً
وهناك سائحةٌ تصوّر مشهدين:
الأوّلَ، الشمسَ التي افترشتْ سرير البحرِ
والثاني، خُلوَّ المقعدِ الخشبيِّ من كيس المسافرِ

وقفتُ علي المحطة.. لا لأنتظر القطارَ
ولا عواطفيَ الخبيئةَ في جماليات شيء ما بعيدٍ،
بل لأعرف كيف جُنَّ البحرُ وانكسر المكانُ
كحجرة خزفية، ومتي ولدتُ وأين عشتُ،
وكيف هاجرتِ الطيورُ الي الجنوب او الشمال.
ألا تزال بقيتي تكفي لينتصر الخياليُّ الخفيفُ
علي فساد الواقعيِّ؟ ألا تزال غزالتي حُبلَي؟

كبرنا. كم كبرنا، والطريق الي السماء طويلةٌ
كان القطار يسير كالأفعى الوديعة من
بلاد الشام حتي مصر. كان صفيرُهُ
يخفي ثُغاءَ الماعزِ المبحوحَ عن نهم الذئاب.
كأنه وقت خرافي لتدريب الذئاب علي صداقتنا.
وكان دخانه يعلو علي نار القري المتفتّحات
الطالعات من الطبيعة كالشجيراتِ.
الحياةُ بداهةٌ. وبيوتنا كقلوبنا مفتوحةُ الأبواب
كنا طيبين وسُذَّجاً. قلنا: البلادُ بلادُنا
قلبُ الخريطة لن تصاب بأيَّ داءٍ خارجيٍّ.
والسماء كريمة معنا، ولا نتكلم الفصحي معاً
إلا لماماً: في مواعيد الصلاة، وفي ليالي القَدْر.
حاضُرنا يسامرنا: معاً نحيا، وماضينا يُسلّينا:
اذا احتجتم إليّ رجعتُ . كنا طيبين وحالمين
فلم نر الغدَ يسرق الماضي.. طريدَتَهُ، ويرحلُ
كان حاضرنا يُرَبِّي القمح واليقطين قبل هنيهة،
ويُرقِّصُ الوادي
وقفتُ علي المحطة في الغروب: ألا تزال
هنالك امرأتان في امرأة تُلَمِّعُ فَخْذَهَا بالبرق؟
اسطوريتان ـ عدوّتان ـ صديقتان، وتوأمان
علي سطوح الريح. واحدةٌ تغازلني. وثانيةٌ
تقاتلني؟ وهل كَسَرَ الدمُ المسفوكُ سيفاً
واحداً لأقول: إنّ إلهتي الأولي معي؟

صدَّقْتُ أغنيتي القديمةَ كي أكذّبَ واقعي
كان القطار سفينةً بريةً ترسو.. وتحملنا
الي مدن الخيال الواقعية كلما احتجنا الي
اللعب البريء مع المصائر. للنوافذ في القطار
مكانةُ السحريِّ في العاديِّ: يركض كل شيء.
تركض الاشجار والأفكار والأمواج والأبراج
تركض خلفنا. وروائح الليمون تركض. والهواء
وسائر الاشياء تركض، والحنين الي بعيد
غامضٍ، والقلب يركضُ.
كلُّ شيءٍ كان مختلفاً ومؤتلفاً
وقفتُ علي المحطة. كنت مهجوراً كغرفة حارس
الأوقات في تلك المحطة. كنتُ منهوباً يطل
علي خزائنه ويسأل نفسه: هل كان ذاك
العقلُ / ذاك الكنزُ لي؟ هل كان هذا
اللازورديُّ المبلَّلُ بالرطوبة والندي الليليِّ لي؟
هل كنتُ في يوم من الأيام تلميذَ الفراشة
في الهشاشة والجسارة تارة، وزميلها في
الاستعارة تارة؟ هل كنت في يوم من الايام
لي؟ هل تمرض الذكري معي وتُصابُ بالحُمَّي؟
أري أثري علي حجر، فأحسب انه قَمَري
وأنشدُ واقفاً
طللية اخري وأُُهلك ذكرياتي في الوقوف
علي المحطة. لا أحب الآن هذا العشب،
هذا اليابس المنسيّ، هذا اليائس العبثيَّ،
يكتب سيرة النسيان في هذا المكان الزئبقيِّ.
ولا أحب الأقحوان علي قبور الأنبياء.
ولا أحب خلاص ذاتي بالمجاز، ولو أرادتني
الكمنجةُ ان اكون صدي لذاتي. لا احب سوي
الرجوع الي حياتي، كي تكون نهايتي سرديةً لبدايتي.

وقع الصدي مني ككوز صنوبرٍ
لا شيء يرشدني الي نفسي سوي حدسي.
تبيض يمامتان شريدتان رسائلَ المنفي علي كتفيَّ،
ثم تحلقان علي ارتفاع شاحب. وتمرُّ سائحةٌ
وتسألني: أيمكن ان أصوّركَ احتراماً للحقيقة؟
قلت: ما المعني؟ فقالت لي: أيمكن ان أصوّرك
امتدادا للطبيعةِ؟ قلت: يمكنُ.. كل شيء ممكنٌ.
فَعِمِي مساءً، واتركيني الآن كي أخلو الي
الموت.. ونفسي!
للحقيقة، ههنا وجه وحيدٌ واحدٌ
ولذا.. سأنشد

اخبار ذات صلة