هدوء القتلة،،، طريقة متفردة ولغة مميزة

الأرشيف
الأرشيف

بيده اليمنى يقتل "سالم" ضحاياه،  ولمن لا يعرف سالم ، فسالم هو قاتل متسلسل غائب في رؤاه ، ليكتب بيده اليسرى قصيدة جديدة مع كل ضحية.. يترك سطورا من الدماء تحيا بامتداد المدينة. ومدفوعا بيقين غريب، يعثر "سالم" على مخطوط عتيق لناسك قديم مجهول، يصير نبيه الشخصي، يقود روحه، ويتخذ من مخطوطه كتابا مقدسا يدير له حياته الخاوية.

"هدوء القتلة" رواية هي مزيج من الواقع والخيال في عيني فرد متوحد لم يعد يملك من العالم سوى بقايا حبر ودماء. وهي -على جانب آخر- نص "القاهرة" التي تبدو هنا أشبه بمدينة تحيا حلم يقظة شاسع، بما يجعلها مكانا متخيلا بقدر ما هو قائم متاح. القاهرة هنا خلاء يحيا أشباحه على هامش الصخب، بوحدة مضاعفة، حالمين ومعزولين ومغمورين بضوء فوق واقعي: "ليل" الإسكافي العجوز والقاتل المتقاعد، "جابر" الشبح ذو الساق الصناعية، "سلمى" التي تُقتل مرتين، "سوسن" الأرملة الوحيدة التي تحيا مع بقايا ملابس حبيب من قرن مضى، وغيرها.

عالم غرائبي يرصده "طارق إمام" في عنفه وصوفيته، عبر راو يدير الوجود بمطواته تحت يقين أنه نبي ضد.. بينما يحيا صراعا آخر تديره يداه اللتان تكاد إحداهما أن تفتك بالأخرى. إذا اكتملت القصيدة بين يدي "سالم" سيكتمل العالم بفنائه الشخصي.. هذا هو رهانه المستحيل في حياة لا تُطلع المرء على جانب من وجهه، إلا لتترك فيه نُدبة.

يقول الشاعر المصري محمود خير الله واصفا الرواية : تتأنق لغة طارق إمام في أعماله الأخرى، التي تدور حول الموت بدرجات متفاوتة، فمنذ" طيور جديد لم يفُسدها الهواء" و"شارع آخر لكائن" – وهما مجموعتاه القصصيتان – مروراً برواية "شريعة القطة" ووصولاً إلى "الأرملة تكتب الخطابات سراً" – روايته الصادرة مؤخراً عن دار العين بالقاهرة – لا يزال مُمسكاً بفصاحته كأنها لعبته الأخيرة، آخذاً قارئه إلى أرض الشعر، رغم أنه لا يزال يُحافظ على قاعدة روائية راسخة منذ جيل الستينيات وحتى الآن، وهي استخدام الفصحى في السرد واستخدام العامية في الحوار بين الشخصيات، ربما لأنه لا يجري وراء الواقع التاريخي الذي يصوره البعضُ كمرآة، والذي يضفي على لغة رواياته مسحة من الخفة، إلا أنه يستخدم المحكية بحذر بالغ، يبدو متناغماً مع رؤيته للعالم، فلا هو يهجر الواقع التاريخي كلياً، ولا هو يعتمد عليه كل الاعتماد، وإد تبدو العامية مناسبة للقتلة تبدو الفصحى أيضاً مكافئة للخيال، الذي يدفع شاباً إلى حافة الجنون، ويكون دور الكاتب هنا هو تنظيم صراع هذا القاتل مع كفين في جسده، اليمنى تقتل بخفة، ربما لكي تتفرغ اليسرى لخلق الشعر، تماماً مثلما كان شهريار الحكايات يفعل مع شهرزادها، يوقف السياف على الباب كل ليلة بانتظار أمرٍ ذبحها، فيما أنقذت الحكايات الفتاة المثقفة من ضربة هذا السياف.

الرواية تتخاطفها منذ العنوان عدة ثنائيات ضدية: " هدوء" و"قتلة"، "سلمى" و"هناء" ، "ليل" و"السارد" ، "اليد اليمنى" التي تقتل و"اليسرى" التي تكتب الشعر، "القاهرة" والمدينة الساحلية"، "الأحلام" و"اليقظة"، وطبعاً"الخير" و"الشر" اللذين يجتمعان في هذه الرواية أكثر من غيرهما، رغم أن الشر أكثر الحضور طزاجة، وأكثرهم عفوية والتباساً، لا تنس أن الشر هو السائد في السرد القصصي الحديث، لدرجة أن كاتباً أميركياً كبيراً بحجم "بول أوستر" تخصص فيه، واستطاع أن يجعل من شخصيتي" القاتل المأجور" و"التحري الخاص" جذريتين في الثقافة الأميركية الجديدة، ولا تنس أن طارق إمام ربما لم ير قاتلاً مأجوراً من قبل، لكنه اجتهد في البحث عنه على الأقل، وسط هذا الكم الهائل من الثنائيات الضدية، بين قاهرة العشوائيات التي يتحرك فيها البطل وقاهرة الأغنياء، التي تبدو شاحبة وضبابية طوال الرواية، والتي تبدو غافلة عن الزمن الذي تحكي فيه، رغم أنها تحدده بين السطور بأنه بعد 60 عاماً بالضبط من العام 1946، وتبدو غافلة عن الواقع الذي تصطاد منه اللحظات الخاطفة لتهدي لنا قاتلاً كل عدة صفحات، دون أن يغفل السارد عن تبرير حالة القتل التي أصابته، بأنه ورث عن جده هذا المرض، والذي أنجب للبشرية ذرية من القتلة المتوحدين، يحكي لنا السارد عن جده قائلاً:

ترك الرجل مخطوطه الدموي المقدس، كتابه الذي ظنه ذات يوم سرياً.. كما ترك نسلاً كثيراً في أرجاء المدينة، أبناءً وأحفاداً يحملون وجهه، عينيه الملونتين وصوته المبحوح.. جميعهم قتلة متوحدون، غارقون في منامات خطرة مثله، لا يرون وجه الله سوى بعيون مغلقة .. وقد عرفت دائماً – دون أن أحتاج لجهدٍ كبير – أنني واحد من هؤلاء".

طارق إمام هو روائي مصري مولود (12 أغسطس 1977) وحاصل على ليسانس الآداب قسم اللغة الإنجليزية من جامعة الإسكندرية وواحد من الروائيين الأكثر غراما بالتجريب.

البث المباشر