وقف على "منصّة" مدرسته عريفًا للاحتفالات، يُلقي الشعر والخطابة، وبعض آياتٍ من القرآن، حتّى احتضنه مجموعةٍ من شباب "حماس"، رأى فيهم القدوة من ثقافتهم وهندامهم، فأرسى محبّته في قلوبهم، وكسِب احترامهم، إلى أن أعطاه أحد الأسرى المحررين منهم كتابًا يقرأه ويستزيد علمًا، واستمرّ الحال لأيامٍ معدودات.
زيارةُ تهنئة ألقاها الفتى أحمد الفليت على جاره الذي خرج لتوّه من سجون الاحتلال، وكان الحديث عن ظروف الاعتقال، والعذاب الذي تلقاه داخل الزنازين "الإسرائيلية"، فاستهوته الأحداث، وطلب قراءة كتابٍ من مكتبة جاره، يشمل متنه "التعرف على الإخوان المسلمين وفكرهم"، إلى أن توالت استعاراته من بيت الأسير.
"مميزون في فكرهم" يقول الفليت، وينسج من حديثه طريقًا يعيده إلى ذكريات أوّل قرارٍ اتخذه في الثلاثين من يناير/كانون الثاني لعام 1992، ينص على بيعته للإخوان المسلمين في فلسطين وعمره لا يتجاوز (18 عامًا).
متيم بالقسام
خلال فترة وجيزة قطع الفليت مراحل في التسلسل الإداري داخل حماس ومع كلّ مرحلة يُبدي بها أحمد إعجاب المسؤولين، يزيد إيمانه بوجوب تسخير جهوده لـ "أن تكون كلمة الله هي العُليا"، فأوصل رسالة للجهاز العسكري لحماس يبلغهم في متنها أنّه "مُتيّمٌ بالانتماء عسكريًا تحت ذراعهم"، إلّا أنّه في كلّ مرةٍ يقابل بالرفض.
كإعلامي أمام فلاشات الكاميرا يخبرنا بالسبب الحقيقي لرفضه، يقول: "لم يكن في تلك الفترة سوى ثلاث مجموعات في غزة والوسطى والجنوب، وكلّ مجموعة لا تملك إلّا مُسدسًا، وإن التحقت معهم سأشكّل عبئًا عليهم".
ازداد الإصرار في قلب الفليت، وكلّما طلب الانضمام؛ يعود بـ "خفي حُنين"، وفي آخر مرةٍ قالوا له: "فور أن تتوفر الفرصة ستكون من عساكرنا"، وردّ عليهم بالرسالة (ما قبل الأخيرة) يقول في مطلعها: "إن لم أكن معكم سأنفذ عملية من تلقاء نفسي".
لم يتلقَ ردودًا من قيادة القسام لكثرة رسائله الملحّة بالانضمام لـ "العسكري"، فاتخذ قرارًا بضرورة تنفيذ عمليةٍ فردية، وكانت وجهته نحو مستوطنة "كفار داروم"، لشدّة معرفته بـ "خباياها".
تخطيط للعملية
وفي الرابع والعشرين من مايو/أيار عام 1992، استشهد ياسر الحسنات، ومروان الزايغ، ومحمد قنديل، وعلّقت المدارس دوامها في دير البلح، وأعلنت البلاد الحداد، وقرر ضيفنا حينها أن يستثمر الحدث لتنفيذ العملية، "انتقامًا للشهداء"، وفجر اليوم التالي صاغ الفليت رسالته الأخيرة، وأرسلها إلى قيادة القسام في محافظته وسط القطاع، أخبرهم أنّه اتخذ قرارًا بتنفيذ عملية استشهادية.
يقول: "تمكنت من الحصول على سكينة جزارين يمتلكها عمّي، ولا تستخدم إلا بعيد الأضحى لذبح الأضحية، وذهبت إلى الحدّاد وطلبت منه أن يُسنّها من الجهتين، وفعل ذلك مُكرهًا لأنّها أصبحت حادّة جدًا".
يتابع: "تمام العاشرة صباح السابع والعشرين من مايو، كنت أنتظر باصًا قبالة البوابة الشرقية للمستوطنة، واتخذت عهدًا ألا أتراجع عن تنفيذ العملية".
قراري بتنفيذ عملية استشهادية في "كفار داروم" آخر رسالة مني للقسام
وبعد ساعات انتظار قضاها يرقب فريسته ويخبئ سكينه التي يمتدّ نصلها إلى (30 سم)، توقّف باص مستوطنين، ونزل من بداخله عدا أحدهم بقي خلف المقود، ونظر اتجاه الفليت، فتبسّم الأخير له، حتّى أوقع في قلبه الطمأنينة، ثم سار اتجاهه بكل هدوء، وبحركة مفاجئة أخرج سكينه من غمده، وغرسها في صدر المستوطن.
"طعنته ثلاث طعناتٍ قاتلة في الصدر"، يقول ضيفنا، ويتابع ويداه تنقبضان بحركة لا إراديّة كأنّه يُعيد المشهد من جديد، "نزعت السكين مملوءة بالدم من صدره، وارتاح قلبي، وعندما حاولت الانسحاب من المكان، أطلق جندي إسرائيلي النار اتجاهي، فأصابتني رصاصة دخلت من ظهري وخرجت من صدري، وتركوني أنزف لساعة، ثم اعتقلوني".
"استطعت قتل حاخام مستوطنة كفار داروم
اعتقال
بقيت عينا الفليت تقاومان الإغماء حتّى وصل إلى سرير المستشفى ينزف، واستيقظ من غيبوبته على صوت ضابط المخابرات "الإسرائيلية"، حيث كان جسده مقيّدًا بسرير حديدي، وصرخ الضابط في وجهه ممسكًا إحدى الجرائد باللغة العبرية، قائلًا: "أنظر أنت قتلت يهودي ورمّلت زوجته".
أخذ نفسًا وهو ملقى على سرير المستشفى، وشعر براحةٍ نفسية لم يمتلكها من قبل، وبقي صامتًا والجميع من حوله يصرخ عليه طلبًا المعرفة عن سبب فعلته، لكنّه أظهر أنّه غير مبال، ثم سمع ضجّة خارج غرفة العناية، ليكتشف أنّها تأنيب للضابط الذي اعترف بموت المستوطن، وعلِم فيما بعد أنّ "فريسته" كان "حاخام المستوطنة شمعون بيرون، أحد علماء الجيولوجية الإسرائيليين".
يقول: "مارسوا أشد أنواع التعذيب بحقّي لأخذ اعترافاتٍ وبقيت صامتًا وكأنّهم غير موجودين"، ويتابع: "كانوا يضغطون على جرحي، وعند إجراء العملية لم يعطون أي مسكنات، ومن شدة التعذيب انفجر جُرحي في أحد الأيام
تعذيب
مهمّة التحقيق مع الفليت لم تقتصر على ضابط "إسرائيلي"، حيث شملت (16 محققًا) وكّلت إليهم المهمّة، واستخدموا وسائل مختلفة لسحب اعترافاتٍ منه، أبرزها "الشبح فترة إصابته، وإطفاء السجائر في جسده، وسجنه لساعاتٍ متواصلة؛ في ثلاجة درجة حرارتها تحت الصفر، والحرمان من الماء والطعام، والضرب في كامل أنحاء الجسد، واستخدام التعذيب النفسي من خلال العصافير (الجواسيس) داخل السجن".
وفي الحادي عشر من يونيو/1992، أعلنت كتائب القسام الذراع المسلحة لحماس عن تبنيها عملية الفليت، ما أوجد ردّة فعلٍ لدى المحققين أنّ التعامل مع ضيفنا لن يكون أمرًا سهلًا، حيث أخبروه أنّ أسلوب التحقيق سيختلف (180 درجة) "لأنّ القسام بتبنيه أكّد أنّك أحد عناصره".
وكُلّما ألقوا عليه سؤالًا، يسمعون ضحكة ساخرة يخرجها من قاع القلب، ما يزيد من تعذيبه على أيدي المحققين، إلى أن أخبرهم بجملته المشهورة التي لم تتغير طيلة فترة التحقيق الذي استمر أكثر من شهرين، قال: "لا أنتمي إلّا لفلسطين".
شعر المحققون باليأس من إمكانية أخذ اعترافٍ من الفليت، حتّى عُرِض على القاضي، وسأله الأخير: "هل أنت نادم على فعلتك؟"، أجابه: "نعم نادم لأنّني لم أتمكّن من قتل أكثر من ذلك، وأردف: "أنت من سينطق بالحكم"، فقال القاضي: نعم، ردّ عليه: "سأقتلك حتّى وإن كان آخر يومٍ في حياتي"، فنطق القاضي بالسجن المؤبّد مدى الحياة عليه.
معايشة القادة
يعتبر ضيفنا نفسه محظوظًا كونه عايش الكثير من قيادات "حماس" داخل السجون، ومن أبرزهم صلاح شحادة، القائد العام والمؤسس لكتائب الشهيد عز الدين القسام، وهو أوّل من نقش تاريخ اعتقال الفليت على جُدران السجن.
يقول: "شعرت أنّ الشيخ شحادة مهتم بأدق تفاصيلي، حتّى وصلت إلى منزلة من قلبه، وكان المُربّي لي داخل السجن، ويوجّهني بشكل لطيف، ويطلب منّي أن أصنع الطعام الذي يحبّه، وأقدّمه له، وأكتشف فيما بعد أنّه ممنوع من تناوله نتيجة مرضٍ ألم به -قرحة بالمعدة-، ويطلب منّي أكله، وبعدما أنتهي يقول: "هكذا أشعر أنني تناولته برفقتك".
كان الشهيد شحادة أوّل من نقش تاريخ اعتقالي على جدران السجن
وفي عام (1994) انتقل الفليت إلى سجن عسقلان، وكان أبرز من التقاهم هناك أبو محمّد الجعبري، نائب القائد العام لكتائب القسام، والذي تولّى مسؤولية تعليم ضيفنا، وتدريبه على لعب "كرة السلّة"، إلى أن وصل إلى الاحترافية بها داخل السجون.
يخبرنا عن آخر لقاءٍ جمعهم بالجعبري يوم الافراج عنه: " كُل أسيرٍ أعطاه وصيّة، حتّى وصلت كلمته للأسرى قال لهم، بعد اليوم أمتلك مهمّة واحدة، وهي "أشوفكم أحرار بين أهلكم".
يتوقّف الفليت عن الحديث لبرهةٍ من الزمن، ويُخفي دمعة عينيه التي على إثرها تناول محارمًا وسعى لخلق أجواءٍ مغايرة، لكنّه ألقى كلمته عن الجعبري قائلًا: "كان عند كلامه.. وعد فأوفى رحمه الله".
انجازات
غيّرنا دفّة الحوار لنضفي أجواءً غير الحزن عليه، واتجهنا للحديث عن انجازاتِ الفليت داخل السجن، فقال: "تمكّنت من تعلّم اللغة العبرية خلال عشرين يوم، واستطعت أن أدرّسها داخل السجون، حتّى أصبحت احدى مهامي، وفي عام (1999) سجّلت في الجامعة العبرية، وتخرّجت منها مُدرِسًا لمن في القسم، ثم ممثلًا لأكثر من سجن آخرهم في "نفحة".
"الشهيد الجعبري علّمني كرة السلّة حتّى وصلت إلى الاحتراف
ولـ "نفحة" نفحات "حرّية" امتلك مهامها الفليت، يتحدث: "وكّلت لي مهمّة تمثيل الأسرى داخل قسم (11) من السجن، وكنا جميعًا نرقب أخبار أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، حتّى أعلنت وسائل الإعلام في الثامن عشر من أكتوبر 2011 عن خبر توقيع صفقة تبادل بين حماس وإسرائيل برعاية مصرية".
فور سماعه الخبر، تواصل الفليت مع الخارج، وتمّ تأكيد النبأ، وجميع الأسرى يرقبونه بصمتٍ، ينتظرون تأكيدًا أو نفيًا، وبعد انتهاء المكالمة الهاتفية التي أجراها واستحواذه على المعلومة، وقف على باب القسم، ونظر إلى جميعهم نظرة من الأسفل إلى الأعلى، وكسر صمتهم كلمته بالعاشرة مساءً: "مبروك حريتكم".
ضجيجُ سعادة، وأصوات تكبيراتٍ لم تتوقف، وأحضانٌ عفويّة، ودموعُ فرحٍ، وسجدات شكرٍ، ملأت أقسام السجن، وبدوره تواصل الفليت مع مكتب خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس، وطلب إرسال أسماء الأسرى المحررين في الصفقة على بريد شقيقه.
"نظمت فريقًا من 6 أسرى، وأجريت اتصالًا مع شقيقي لأحصل على أسماء المحررين في الصفقة، وبقيت أحادثه من مساء الثلاثاء حتّى صباح الأربعاء"، يقول الفليت.
وبعدما امتلك ضيفنا أسماء المحررين في قسمه، تأكّد أنّ (70 أسيرًا) سينالون الحرية من أصل (120)، وكان همّه كيف ستكون ردّة فعل من لم يحالفه الحظ في الصفقة.
حاول جاهدًا البحث عن مخرج، حتّى توصل إليه بعد مشاوراتٍ مع الأسرى داخل غرفته، يقول: "وصلنا لفكرة أن نكتب رسائل للأسرى الذين لم يُكتب لهم الافراج، نصها "قدر الله وما شاء فعل"، ونكتب أسماء أقرب الناس له ممن لم يحالفهم النصيب في عملية التبادل، وفي ذيلها "أنت للأسف لا نصيب لك".
(50 رسالة) كُتبت ووزعت على الأسرى الذين لم يحالفهم الحظ، ولما يزيد عن (5 ساعات) عاد الصمت من جديد، ولكن بنكهة الحزن والمواساة، "فالفرحة باتت منقوصة".
رياح الحرية
وفي صبيحة الأحد، السادس عشر من أكتوبر (2011)، تمّ تجميع الأسرى الذين شملتهم صفقة "وفاء الأحرار" داخل سجن النقب، وفي اليوم التالي تمّت الإجراءات النهائية من "فحص DNA، واللقاء الأخير مع ضابط المخابرات الإسرائيلي، حتّى فجر الثلاثاء انتقلوا إلى معبر كرم أبو سالم، وصولًا إلى معبر رفح الثانية ظهرًا.
"أوّل ما عتّبت أقدامنا أرض غزة؛ سجدنا سجدة شكرٍ لله"، يقول الفليت، ويبتسم من شدّة استقبال الغزيين وتجمهرهم في شوارع وأزقة وأحياء غزة، وعن مشهدٍ استوقفه يتابع: "كنّا مصدومين من كثرة المقاومين والمسلحين في جميع شوارع القطاع.. تنظيم، وحفاوة استقبال، ومنظر مدهش".
يتنفسُ وكأنّه لأوّل مرة يلتقط أنفاسه، ويقول "وُلدت في الـ(18/أكتوبر/2011)، وفجر الأربعاء كانت أوّل صلاةٍ بالمسجد، ثم صعدت على سطح المنزل شاهدت شروق الشمس وأضحت عادة يومية أمارس طقوسها، ثم اتجهت إلى شاطئ البحر لأشاهده بعد حرمانٍ استمر (20 عامًا) داخل السجون".
وبعد أربعة أشهرٍ من الإفراج، تزوّج الفليت، وأنجب "إبراهيم، ومحمد"، وعلى صعيد عمله أنشأ مع زملائه المحررين رابطة "الأسرى والمحررين"، ومن ثمّ مركز نفحة للدراسات والشؤون "الإسرائيلية" الذي يتولّى رئاسته، ويعمل المركز على "تخريج جيلٍ قادر على فهم الشارع الإسرائيلي، وتعليم اللغة العبرية".
وفي نهاية لقاء "الرسالة نت" مع الفليت، قال: "تجربة السجن عظيمة، ولو عاد الزمان بي مرة أخرى لن أتردد في إعادة التجربة مرّة أخرى، لأنّ الحياة لو كانت روتينية ستكون مملة"، وقدّم اقتراحًا لإنشاء "سجنٌ إجباري".. كالتجنيد الإجباري لفترة بسيطة، معللًا بالقول: "لأنّك بداخله ستتعلم دروسًا تنعكس على شخصيتك وأسلوبك وحياتك، ويخرجك شخصًا غير الذي كنت عليه من قبل".
الزميل محمد أبو زايدة يحاور الأسير المحرر أحمد الفليت