لم تغفر السعودية الموقف السياسي الذي اتخذه وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل، في مؤتمر وزراء خارجية دول "المؤتمر الإسلامي"، برفض الانضمام لما عرف بـ "الإجماع العربي"، بشأن اقتحام سفارة المملكة في طهران وقنصليتها في مشهد، على خلفية الاحتجاج على إعدام نمر النمر. برّر الوزير باسيل موقفه بعدم التصويت على إدانة الهجوم الإيراني بسياسة "النأي بالنفس" التي يقال إن لبنان يتبعها في قضايا الخلافات الإقليمية الكبرى، تلك التي تكون المملكة أو إيران طرفاً فيها، لكون هذه الدول تملك تأثيراً كبيراً على كتل سياسية كبيرة الحجم في الساحة اللبنانية، يمكن لأيٍّ من الطرفين اللبنانيين أن يهدما الاستقرار الهش. لم يتأخر رد فعل الرياض كثيراً. سحبت هبة الثلاثة مليارات دولار، المرصودة مساعدات لتسليح الجيش وقوى الأمن، وطلبت من رعاياها مغادرة لبنان، وحذّرتهم من السفر إليه، إلا للضرورة القصوى، كما جرى كلام كثير عن ترحيل بعض المقيمين اللبنانيين العاملين في دول الخليج، والمقربين من حزب الله أو التيار الوطني الحر الذي ينتسب إليه وزير الخارجية الحالي.
هذه الخطوات السعودية تبعتها فيها بقية دول الخليج، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة، لكنها جميعاً تصب في خانة الضغط السياسي والاقتصادي على لبنان، بغرض تغيير سياسته التي اعتبرتها الرياض معادية لها، ومنحازة للجمهورية الإيرانية، ليس فقط إعلامياً في إطلالات الأمين العام لحزب الله، ولكن من لبنان الرسمي، الممثل بمواقف وزارة الخارجية. يحدث هذا التوتر مع لبنان، في ظل احتدام مواجهة طهران وحلفائها في المنطقة، بعد دخول اتفاقها النووي مع الغرب حيز التنفيذ، وارتفاع منسوب ثقة النظام الإيراني بالنفس، مع لامبالاة واشنطن بمطالب الرياض ودول الخليج المستمرة بعدم التهاون مع التمدد الإيراني في اليمن والعراق وسورية. أضف إلى ذلك كله، انخفاض قيمة مصر السياسية في ميزان القوة، منذ إطاحة حسني مبارك، بما يعني اختلال الميزان لصالح المحور الآخر. ولا شك في أن هذه الأمور مجتمعة جعلت السياسة الخارجية السعودية تهجر نهجها المحافظ إلى سياسةٍ أكثر صرامة تجاه خصومها.
تنتظر لبنان أيام عصيبة، إذ لا يبدو أن الرياض ستكتفي بهذه الإجراءات الأولية، ما دامت الأطراف المناهضة لسياستها لا تزال في السلطة. خصوصاً، التيار الوطني الحر، "المستهدف الرئيسي بهذه الإجراءات، بغرض فك التحالف بينه وبين حزب الله، أو تدفيعه ثمن مواقفه التي تصب في مصلحة إيران، بإحداث انقسامٍ داخل جسم التيار"، بحسب أحد المختصين في الشأن السعودي، ثم حزب الله بدرجة أقل، عبر وسائل أخرى، لكون الضغوط الاقتصادية لا تؤثر في الحزب مباشرة، بسبب اعتماده على التمويل الإيراني، كما أن الرياض قامت بتصنيفه "جماعة إرهابية"، وهي ستسعى، بحسب تسريباتٍ في إعلام "محور الممانعة"، إلى إيجاد إجماع عربي على هذه الخطوة، كون السعودية تتهمه بمساعدة حركة أنصار الله (الحوثيين) على استهداف أمنها، من خلال سياسة "نقل الخبرات" إلى الحركة الحوثية، كما ظهر في التسجيل الذي بثته قناة العربية، لشخص لبناني، يدعى أبو صالح، يقوم بتدريب أفراد الحركة.
زائر لبنان لا يكاد يتجاوز خطواته الأولى، خارج مطار رفيق الحريري، حتى يكتشف حجم التدهور الاقتصادي الذي يعيشه هذا البلد الصغير، فالسياحة التي كانت تشكل إحدى أهم موارده تراجعت بشكل كارثي منذ اغتيال الحريري نفسه، فضلاً عن استمرار فشل النخبة السياسية في انتخاب رئيس للجمهورية، منذ أكثر من عام وعشرة أشهر. أضف إلى كل ما ذكر وجود قرابة مليوني سوري هجّرتهم الحرب الأهلية، ويتحمل لبنان مشقة استيعابهم.
على الجانب الاقتصادي، يوجد قرابة 550 ألف لبناني يعملون في دول الخليج اليوم، وتبلغ قيمة تحويلاتهم السنوية قرابة سبعة مليارات دولار، كما أن حجم الصادرات اللبنانية 75% الزراعية و53% من حجم الصادرات الصناعية إلى الخليج، بحسب رئيس غرفة التجارة والصناعة، محمد شقير. كل هذه الأمور معرضة للاهتزاز، إذا ما قرّرت دول الخليج زيادة الضغط على الحكومة اللبنانية.
إذاً الوضع الاقتصادي والاجتماعي اللبناني يكفيه ما فيه، ولا يتحمل مزيداً من الضغط، لأن الخاسر الأكبر من هذه المواجهات السياسية على أرض لبنان هو المواطن البسيط الذي، وإن كان مؤيداً لهذا الطرف أو ذاك، لا يملك التأثير على قرارات النخب السياسية فيه؛ بسبب تركيبة السلطة فيه أولاً، ثم الانقسام الطائفي الحاد في المشرق العربي، والذي حرم مواطنين كثيرين من التعبير عن مواقف تنسجم مع مصالحهم الاقتصادية، وقد شاهدنا جميعاً نتائج الحراك المدني وسط بيروت، وكيف تم ضربه وتفريغه من محتواه، بفضل سطوة أمراء الطوائف.
سينعكس الضغط الخليجي على المواطن الذي لا حول له ولا قوة. قد يكتسب الضغط الاقتصادي على لبنان قيمةً أعلى، إذا ما كان المجتمع اللبناني قادراً على تغيير مواقف سياسييه، لكن استمرار أزمة النفايات أثبت أن النخب اللبنانية محمية بسياج الطائفية الذي يمنع وصول ارتداد الأزمات المتوالية على مواقعها ومواقفها.
العربي الجديد