فيحاء شلش: أتنفس حبًا لزوجي الأسير محمد القيق

فيحاء شلش: أتنفس حبًا لزوجي الأسير محمد القيق
فيحاء شلش: أتنفس حبًا لزوجي الأسير محمد القيق

الرسالة نت-محمد أبو زايدة

تجمّعوا على مائدة الطعام، وتبادلوا الابتسامات وأطراف الحديث، ثمّ حلّ المساء، وخلد الجميع إلى نومهم، ومع أذان فجر الحادي والعشرين من تشرين الثاني/ديسمبر-2015، استيقظ الجميع على صوت جنود الاحتلال يضربون بأعقاب بنادقهم باب البيت، ويصرخون باللغة العربية المكسرة: "افتحوا الباب.. بدنا محمّد القيق".

نادى مُحمّد على زوجته فيحاء أن ترتدي ملابس الصلاة، قائلًا لها: "جيش الاحتلال هنا"، فأسرعت وصوت صراخ الجنود في ازدياد، فأخبرهم الزوج أنّه قادمٌ لفتح الباب، لكنّهم لم ينتظروا؛ فكسّروا النوافذ الزجاجية، وفجأة.. صوت انفجاراتٍ في المكان.

تيقّنت فيحاء أنّ الجنود قد فجروا باب البيت ودخلوا، فتمالكها الذعر؛ لكنّها تسلّحت بـ"حسبنا الله ونعم الوكيل"، وما بين التقاط النفس واحتباسه في رئتيها حتّى تجمّع داخل المنزل ما يزيد عن (15 جنديًا) مدججين بالسلاح، وعاثوا في المكان فسادًا، وصادروا جهاز الحاسوب، وجوال الزوجة والزوج، وطلبوا هويّة مُحمّد وبعدما تأكّدوا منه، عصبوا عينيه واقتادوه خارج المنزل.

لحظة صمتٍ عاشتها فيحاء وهي تنظر من نافذة البيت على زوجها مقيّد العينين، مصحوبًا إلى جيبِ عسكري، وتداركت نفسها لتتفقّد ابنيها -إسلام ولور-، لكنّها للوهلة الأولى شعرت بالطمأنينة بعدما وجدتهما لا يزالان يرقدان في أسرّتهما.

أمسكت هاتفها، وأخبرت العائلة عن اعتقال محمّد، ووضعت خطّةً لتسير وفقها، وتعمل على تحرير زوجها من براثن السجن التي حفظت اسمه لكثرة زيارتها له، فهو أسير محرر أمضى أكثر من ثلاث سنوات في سجون الاحتلال واختطف لأشهر لدى جهازي الوقائي والمخابرات وأمن الرئاسة في أعوام 2006 و2008 و2009.

صدمة الإضراب

وبعد أيّامٍ معدوداتٍ من الاعتقال، تصفّحت الأخبار، وصادفها خبرٌ "الأسير الصحفي محمد القيق مستمرٌ بالإضراب عن الطعام لليوم 11 على التوالي"، تعقّب بالقول: "ظننت أنّ أسيرًا آخر يحمل ذات الاسم، فأكملت قراءة تفاصيل الخبر، حتّى تأكدت أنّه زوجي".

 اضراب محمد عن الطعام سلاحه الوحيد أمام ظلم السجان

أسرعت فيحاء تتصل بالمحامي الذي نشر الخبر، فأكد لها ما سمعت به، وتضيف: "استغربت من الأمر لأنّه بدأ إضرابه في اليوم الخامس من اعتقاله، فبقيت أتساءل ما الذي مرّ به محمد من قسوة جعلته يعلن إضرابه عن الطعام؟".

صدمة الخبر شكّلت درعًا لفيحاء لأن تساند قرار زوجها وتدافع عنه، تتابع: "أعلم أنّ الإضراب هو سلاح الأسرى الوحيد أمام ظلم السجّان، فشكلنا غرفة عمليات في العائلة مع أشقاء ووالد محمد، ووضعنا الخطوط الرئيسية للعمل في دعم الإضراب".

وأوّل الفعاليات التي نظمتها العائلة، بدأت من أمام منزل والد محمّد في بلدة دورا جنوب الخليل بالضفة المحتلة، وتنوّعت ما بين محافظات الوطن بخطّة مدروسة، وتسلّمت فيحاء الجانب الإعلامي، والتواصل مع المؤسسات والقيادات والهيئات المختلفة، وأكدت لـ"الرسالة" أنّها حرصت على أن تكون الفعاليات "وحدوية، ولا يرفع بها إلا العلم الفلسطيني".

لم يمر يومان دون فعالياتٍ مساندة لإضراب القيق، وازدادت كثافتها عقب اليوم الـ(60) من الإضراب، بعدما أعلن "نادي الأسير" أنّ محمّد في أشد حالاته سوءًا، وأنّه معرض للموت في أي لحظة.

في نهارها تسخّر جميع وقتها لمساندة زوجها، وأثناء خلودها للنوم، تضع رأسها المثقل بالأفكار على الوسادة، وتدور عجلة تساؤلاتها: "ما الذي سأفعله إذا استشهد محمد، وكيف سيكون الأمر، وهل أنا قوية بما فيه الكفاية لأتحمّل الحياة دون وجوده فيها؟".

الفرج قريب

وبعدما تزداد حدّة الأسئلة، تطردها بعيدًا وهي تبتسم لواقعها مرددة أنّ "الفرج قريب، والغد أجمل"، وإن لم يجافها النوم، تستحضر لقاءها الأوّل مع محمّد، في كلية الإعلام بكنف جامعة بيرزيت برام الله، وعملهم معًا في إعداد مجلة إذاعية ضمن متطلبات أحد المساقات الجامعية.

"عملنا معًا في إعداد المجلة، وتعرف محمّد على شخصيتي عن قرب، وفي أحد الأيام قال لي أريد الارتباط بكِ، حتى تفاجأت من الطلب"، تقول فيحاء.

كان يحفّ الارتباط بعض القلق، لبعد سكن محمّد الكائن في دورا قرب الخليل، عن بيت عائلة فيحاء في رام الله، والأكثر إثارة للقلق هو بعد عائلة شلش عن ابنتهم الوحيدة، "لكنّ القيق يملك قدراتٍ سحرية في الإقناع، فلم يجد والدي أنسب من هذا العريس لابنته الوحيدة"، وفق وصف فيحاء.

ومع بدء التجهيزات لـ"عشّ الزوجية" في صيف (2008)، جهّز محمّد مفاجأة لزوجته، بأن يحضر حفل تخرجها دون عِلمها، لكنّ الاحتلال اعتقله على حاجز "الكونتينر" العسكري، شمال شرق مدينة بيت لحم، وحُكِم عليه بالسجن (16 شهرًا)، لترؤسه مجلس طلبة جامعة بيرزيت بين عامي (2006-2007)، واغتال بذلك الفرح الذي أعدّت له العائلة طويلًا.

أخذت عهدًا على نفسي أن أحجّر الدمع في المقل أمام الجميع

تستطرد فيحاء: "كنّا قد حددنا موعد الزفاف، واشترينا الأثاث، وحجزنا قاعة الفرح، لكنّنا ابعتنا ولغينا كل شيء، وانتظرنا حتى يتمّ الافراج عن محمّد"، وبعدما مرّت أشهر الحُكم، توّجت حريته بزفافه في تشرين الثاني (2009) وأقامت العائلة في شقة مستأجرة تطل على جامعة بيرزيت.

تتحدث فيحاء لـ"الرسالة" بلهفةِ الحنين لفنجان القهوة الذي تحتسيه كلِ صباحٍ برفقة شريك حياتها، وتخبرنا أنّ الله رزقها من محمّد طفلين، وهما (إسلام 4 أعوام، لور عام ونصف).

فزع

حالة من الفزع أصابت فيحاء عقب رؤيتها مقطع فيديو لزوجها أثناء إضرابه عن الطعام، وهو يصرخ "يا رب.. يا الله"، تعقّب على ذلك: "قبل اعتقاله إذا كان محمد يعاني من صداع كنت أشعر أنني المتألمة بدلا منه، فما بالكم وهو أسير ومضرب عن الطعام واحتمالية استشهاده تتضاعف يوما بعد الآخر؟".

كانت تخشى رحيل زوجها مع كل دقّة لعقارب الساعة، وكلّما أزاحت ستار القلق عن نفسها بترديد "شدّة وستزول"، تعود لحديث الذات: "محمد ليس فقط الشريك بل الصديق والأهل والكل الآخر ليس النصف الآخر فحسب".

ورُغم ذلك أخذت على نفسها عهدًا ألا تجعل للدمع مكانًا على محياها أمام الجميع، وأن تكون بؤرة أمل لكل من حولها، وتساندهم، وتهدهد عليهم، "لأن محمد يريدني قوية وإن ضعفت فهذا سيؤثر على معنوياته وحالته النفسية"، وفق فيحاء.

ولأجوائها داخل البيت حكاية أخرى، فكلّما شرحت لطفليها الصغيرين حكاية والدهما، يبادرها ابنها اسلام بالسؤال: "لماذا اعتقله الجيش، هل كان يزعج ماما، لماذا حطموا باب المنزل هل لأنّه ليس جميلًا".

أسئلة طفلي إسلام البريئة عن والده كانت تغرس سكينًا في قلبي

تتابع: "كان طفلي يسألني الكثير من الأسئلة البريئة التي تغرس سكينا في قلبي كل مرة حزنا على هذه البراءة المشوهة بحقد الاحتلال، وأول مرة رأينا فيها صورة محمد في الرابع من شباط قال إسلام "ليش بابا راسه طويل؟" تعليقا على شعره الطويل ولحيته".

وأكثر ما كان يُخيف فيحاء فترة اعتقال زوجها وإضرابه عن الطعام، هو عودة الاحتلال لاقتحام البيت، ومضايقة أفراد العائلة، "لكنّه لم يحدث بفضل الله".

رياح الحرية

ومع إصدار المحكمة "الإسرائيلية" قرارها القاضي بتعليق الاعتقال الإداري لمحمّد، سمح الاحتلال للزوار والنشطاء بالدخول إلى غرفته والمبيت فيها، فكان أوّل حديثٍ لفيحاء مع زوجها، لكنّه لم يطل لأنّ القيق كان مجهدًا، واستجمع قواه لإرسال عدّة رسائل، أبرزها قوله: "لا تنخدعوا بقرار المحكمة".

ولأنّها تعتبر نفسها إرادة محمّد التي تحلّق خارج أسوار السجن، فقد خضعت للظهور الإعلامي والذي بعدت عنه منذ صِغرها، تقول فيحاء: "هذه التجربة أجبرتني على الظهور في العلن لأن الهدف كان إحياء قضية زوجي وإيصال صوته، وفي كل مرة سواء في فعاليات أو مؤتمرات كنت أدعو الله أن يشرح لي صدري وييسر لي أمري ويحلل عقدة من لساني في سبيل إيصال القضية بأفضل شكل".

ومع بزوغ شمس يوم الأربعاء (24/2)، وصل فيحاء اتصال هاتفي من محامين، وأبلغوها بأنّ "هناك بذرة اتفاق"، لكنّ خيبات الأمل التي مرّت معها طيلة (92 يومًا) لم تعطها جرعة تفاؤل بما فيه الكفاية، لكنّها بقيت تتابع الأمر عن كثب، أملًا أن تحلّ مشكلة زوجها.

وفي صبيحة الجمعة (26/2) هاتفهم أحد المحامين وقال لفيحاء إنه سيجري التوقيع على الاتفاق قبل صلاة الجمعة، واستعدوا للمؤتمر الصحفي، وأبدى محمد موافقته على الاتفاق الذي ينص على الإفراج عنه في (21/5/2016)، بقرارٍ جوهري غير قابل للتمديد، وعلاجه بمستشفى العفولة على يد طاقم فلسطيني متخصص.

تقول: "بعد المكالمة لم أشعر بالوقت ولا بالدنيا من حولي؛ فقط كنت في عالم آخر تغرقه التساؤلات، هل بالفعل سينتهي هذا الكابوس؟ هل سيتم الاتفاق؟ هل سيفشله الاحتلال؟ هل سيعود محمد لنا قريبا؟ وجدت نفسي فجأة أمام عشرات الكاميرات أعلن انتصار محمد وكنت في حالة من عدم التصديق".

لغة القلب

وما زاد من دقّات قلب فيحاء، تصريح القيق أنّ "اللقمة الأولى التي سيتناولها، ستكون من يد زوجته فيحاء"، وتعقّب على ذلك: "لم أستغرب لأن علاقتي بمحمد مميزة جدا، وتوقعت أنه يريد لرمزية العلاقة أن تتوج بفك الإضراب وإنهاء مرحلة هامة جدا في حياتنا".

ومع أوّل لقاءٍ جمع الزوجين معًا بعد فكِ الإضراب، كان مفعمًا بالمشاعر، تصفه فيحاء بالقول: "كنت أتلهف شوقا لرؤية محمد، ولكن في الوقت ذاته شعرت بالخوف؛ ربما لأنني لم أعتد أن أرى محمد إلا قوي البنية في صحة ممتازة ولم أعهده طريح الفراش أبدا".

وتضيف: "مع كل خطوة أقترب فيها من مستشفى العفولة كان النبض يتسارع وشعرت الطريق ذهاباً طويلًا جداً، ودخلت الغرفة فوجدت جسدا نحيلا جدا على السرير أشعرني بمدى عظمة هذا الإنسان رغم الحال التي هو بها، قبلت رأسه وعنيت ذلك لأنه تاج على رأسي ما حييت".

وجدت نفسي أمام عشرات الكاميرات أعلن انتصار زوجي

وتتابع: "لم أشعر بالوقت ومرور الساعات وما إن وصلت قيل لنا هيا حان وقت المغادرة بحسب وقت التصريح المتاح لنا، حزنت كثيرا لأن لور لم تتعرف على شكل والدها ولكن وعدت نفسي أن أعرفها باستمرار على صوره وملامحه بعد الإضراب كي تكون مهيأة لأي زيارة أخرى".

حديث الزوجين طيلة فترة الزيارة المسموحة، كان مفعمًا بالتوصيات التي رتّلها محمّد على مسامع فيحاء، بأن تحافظ على علاقتها بالله، ووصيته بالأطفال والعائلة.

ولأنّ اعتقال زوجها أعطاها درسًا في الحياة، فإنّها تصف الأيّام التي مرّت معها بقولها "ساعات طويلة جدا مرت بمرارتها وقسوتها وصعوبة لم أعهدها من قبل، أحيانا كنت أشعر أن اليأس يتسلل لي، ولكن أتسلح بالدعاء والصلاة كي أبدده، 95 يوما لن أنساها ما حييت ولكنها ذكرى جميلة تخللها صبر وصمود وتحد وإرادة".

وفي نهاية حديثها، طلبت "الرسالة" منها أن تكتب رسالة لزوجها، فقالت: "شخص محمد وطبيعة تفكيره؛ تؤهله لأن يكون هو كل شيء لي في هذه الحياة، فعلاقتنا تخطت حدود الحب أو العشق لأنها مبنية على أصل متين أساسه العلاقة القوية بالله تعالى، هو أهل وصديق وشريك ووالد طفليّ ولا أذكر أبدا أنني مللت صحبته أو شعرت اتجاهه بشيء أقل من المودة الكاملة اللا منتهية، أنا أتنفس حبًا لمحمد".

البث المباشر