القافلة لم توصل "يحيى" الصغير إلى حيث كان ينبغي أن يصل. تتوزّع الأماكن في حياته ويبتعد واحدها عن الآخر، كما يتوزع الأهل المفترضون. لكن خيطاً يشد المتفرّق فيلمّه في واحدٍ هو السيرة على اختلاف رواتها.
المسافات ما بين جدة وقريته الأصلية تنأى، بقدر ما تكبر جدة في عينيه الصغيرتين. وكلما كبرت المدينة صغر حيالها.
وتمضي الحياة، حياته وقد صار شاباً، في احتمالاتها. إلا أن صورة الأطفال الذين جُعلوا عبيداً ظلت طرية في ذاكرته التي لم تهرم. والتحق فعلاً بمن وعدوه بالخلاص ولاحوا في عينيه مخلّصين. غير أن سيرته، مثل سير الضحايا الكثيرين، ظلت تلهث وراء أحداث كبرى وعواطف مستحيلة. وفي النهاية كفّت القدرة على الاحتمال، فـ"كل يوم تطلع الشمس لتقتل حلماً كنا نعيشه".
رواية "مدن تأكل العشب" تفاصيلها تدنو كثيراً من الواقع مبتعدة عن الخيال ، فهي تصور عذابات الإنسان في غربته ، تدور أحداثها حول "يحيى" ذلك الفتى الذي حاول التحليق بحلم أمه يوماً ليسافر ويعود إلى قريته محملاً بالذهب من أرض الحجاز ، حلم طار بصاحبه إلى نقطة اللاعودة، فلا الحلم تحقق والا الغائب عاد ، وقبل أن تخطفه الغربة نَعِم "يحيى" بثلاث ليفقدهن بعد ذلك إلى الأبد: "أمه التي أصبغت عليه حنانها فغرق به وظل بقية العمر يبحث عنه، قريته التي ظلت جبلاً بداخله كلما جرفته مياه الغربة صعد إليه ، وحياة تلك الفتاة التي يقف على عينيها فيغدو طائراً يحلق في الفضاء بلا جناحين.
يختار "عبده خال" لحظة تاريخية مؤثرة في تاريخ الحجاز، قبيل حرب "اليمن" عام 1962 التي بدأت عندما انقلب المشير "عبد الله السلال" على "الإمام محمد البدر" مما أدى لفرار الأخير إلى "السعودية" وبدأت الحرب الأهلية من هناك، واستمرت تلك الحرب 8 أعوام حتى سيطرت الفصائل الجمهورية على السلطة وأعلنوا قيام "الجمهورية اليمنية"، وفي الوقت الذي يتلقى فيه "الإمام" وأنصاره الدعم من "السعودية"، يتلقى الثوار "الجمهوريون" الدعم من "مصر" ورئيسها "جمال عبد الناصر".
يعود "خال" إلى تلك الحرب راصدًا حال المتضررين الأساسيين منها وليس من خلال رؤية السياسيين والقادة، ولكنه يحمّل الإدانة كاملة لـ"جمال عبد الناصر" على تأييده ودعمه لهذه الحرب التي قتلت وشردت الكثير من الفقراء والبسطاء الذين آمن بعضهم بدعاواه القومية، ومن لم يكن لهم ناقة ولا جمل في هذه الحرب الدائرة!
تجدر الإشارة أيضًا أن "عبده خال" أتقن رسم شخصيات روايته، وأجاد في جعلهم يعبرون عن أنفسهم، فانتقل سرد الرواية بين ما يعبّر به "يحيى" عن نفسه، ثم فصول أخرى تتحدث بها "أم يحيى" عما يدور حولها، ولعل هذه الطريقة من أنجح طرق السرد وأكثره تقريبًا لنفسية القارئ، حيث تجعله يتعاطف مع تلك المأساة التي يسرد تفاصيلها من الجانبين، بالإضافة إلى استخدامه لغة شاعرية متميزة، تصف المشاعر والأحاسيس بدقة، فانظر مثلًا إلى تعبير "يحيى" عن نفسه عندما ذهب إلى قريته ولم يجد أحدًا من أهله فيها، يقول:
( ثمة شيء يموت هنا.
وقف بيتنا فارغًا من كل شيء. ليس به سوى صحون معلقة بداخل العشة تصدر أصواتًا مع دفعات الريح القوية، وصدى مهول يستفز الرعب لأن يلتهمك، فتتقوض، تنهار، تغدو حطبًا تجهز ذاتك للاحتراق، تتلمس أطرافك تتأكد أنها لا زالت ترافقك، تضمها خشية أن تفترقا في أي لحظة، وتتركها مدلاة من جذعك وتهتف (هذه الأطراف هي أول من يحترق)
عبده خال، قاص وروائي من جدة، مشرف على الملحق الأسبوعي الثقافي في جريدة "عكاظ". صدر له "حوار على بوابة الأرض"، "لا أحد"، "ليس هناك ما يبهج"، "الموت يمر من هنا"، "حكايات المداد".