جدارٌ واحد يفصل بين الحياة الاعتيادية للمواطنين في غزة وبين حياة الأموات والقبور في أكثر الأماكن حيوية داخل مقبرة الشيخ شعبان وسط غزة، حيث تقطن عائلة المواطن أبو جبر كحيل داخلها وتتخذ من هذا المكان الموحش بيتًا لها، ومن زوارها مصدر رزق، ومن شواهد القبور منشرًا لملابسها المغسولة.
المسن أبو جبر كحيل (65عامًا) يعيش برفقة أبنائه وأحفاده البالغ عددهم 14 فردًا، داخل المقبرة، وهو رب الأسرة بعد وفاة زوجته منذ عدة سنوات، والتي دفنت اضطراريًا أمام باب منزلهم.
ويجلس أبو جبر كل يوم أمام باب منزله بجانب قبر زوجته وبين القبور وشواهدها، محاولا الحصول على دفء شمس الصباح، بعدما يلسع جسده وأجساد أحفاده هواء المساء البارد الذي يتسلل من ألواح "الزينكو" المتهالكة.
وبعيون ملؤها الألم والحسرة يقول أبو جبر في حديثه لــ "الرسالة":" الحياة في المقبرة لا تصلح للأموات إلا أننا نضطر للعيش بها، لعدم وجود منزل آخر يؤوينا، ورغم توافد عدد من المسؤولين وأصحاب الجمعيات الخيرية لنا لكن دون فائدة".
لم يكمل أبو جبر حديثه حتى تساقطت الدموع على خديه وهو يحاول إخفاءها عن أحفاده الأطفال المتجمعين حوله، ليردف بلهفة كبيرة: "ننام بين الأموات ونعيش عذابهم ونحن أحياء، ولكني أخشى على أحفادي من العقارب التي تتجول حولنا والثعابين والجرذان التي تتنقل داخل المنزل ليلا، والتي تعرضهم للأمراض بشكل دائم".
ويضيف: "أصيبت زوجتي بلسعة من الثعابين الضارة توفيت على إثره، في حين لم يتمكن أبنائي من الالتحاق بالمدارس نتيجة للظروف المادية الصعبة التي مررنا بها، وهذا الفقر أصبح ملازما لعائلتنا حتى أن أحفادي لم يمكنوا كذلك من الالتحاق بالدراسة وباتوا كآبائهم يحفرون القبور مقابل مبالغ رمزية".
ويضطر أحفاد "المسن أبو جبر" للانتشار في المقبرة لحظة دخول أهالي الموتى لدفن أبنائهم، ويسارعون لتقديم المساعدة لهم وجلب المياه للمشيّعين، على أمل الحصول على قليل من المال ليشتروا طعاماً لهم.
دموع العائلة وحسرتها لم تفارقها خلال وجود مراسل الرسالة، نظرًا لعدم وجود مساعدة من أحد لأسرتها وتزداد حسرتها بارتفاع عدد أسرتها وضيق منزلها.
ويمر أحد أبنائه بين عدد من القبور داخل المنزل الواحد للوصول إلى غرفة النوم، بعدما اضطر لضم غرفة داخل المنزل للحصول على غرفتين وحمام ومطبخ من دون أبواب، ودون حماية آمنة للمنزل من الحيوانات البرية المنتشرة طوال الليل.
كما يخلو منزلهم من أي أجهزة كهربائية داخل المطبخ، وتستخدم الأسرة في أغلب الأحيان النار والحطب لطهي الطعام.
لا يوجد لأبو جبر أقارب في غزة فجميعهم يقيمون في الخارج. يقول أبو جبر: ناشدتهم أكثر من مرة لمساعدتها لكنهم طلبوا منها أن تترك أولادها وتلحق بهم الأمر الذي رفضته المسنة.
ويحاول أن يسعى دائما إلى الوصول للجمعيات الخيرية لطلب المساعدة بتغيير مكان إقامته حتى تتغير الحالة النفسية لأبنائه إلا أن كل الجهد الذي يبذله يذهب سدى على حد قوله.
وعن مستقبل حياته بين القبور يقول أبو جبر: "سكنت أربعين عاما وأكثر بين القبور وأنا أتحمل وأصبر على كل هذه الظروف وقد مرت السنين لكن مأساتي حاليا تكمن في حالة أبنائي وأحفادي وكيف يمكن لهم أن يواصلوا طريقهم نحو المستقبل في ظل هذا الوضع".
وعائلة كحيل ليست الوحيدة التي تتخذ من المقابر موطنا، بل هناك العديد من العائلات التي تقطن المقابر في بيوت مبنية من الصفيح والبلاستيك وبعضها من الحجارة، وغالبا تكون بلا أسقف، بينما الكثير منها تكون آيلة للسقوط بسبب طريقة البناء البدائية والقديمة.
أما ابنه جبر (30 عاما) والذي يعمل بحفر القبور ويقطن في غرفة متهالكة داخل المقبرة بجانب منزل والدته تحول الجزء المتبقّي من منزله إلى مكرهة صحيّة تنبعث منها روائح كريهة نتيجة تربية السكان للدواب والكلاب داخل المقبرة وإلقاء النفايات بداخلها، فيما ينعدم الأمان في المنطقة بأكملها.
يقول جبر لــ "الرسالة نت ": نحن لا نخشى الأموات، فهم لا يؤذون، هم جيران مسالمون، استقبلونا بينهم، ننشر غسيلنا بين شواهد قبورهم، ويلعب أطفالنا عند مراقدهم دون أن يعترضوا، نحن نخشى الأحياء، "المشتبهين" أو أصحاب السوابق الّذين يحتمون بالمقبرة".
ويتمنى أن يتغير وضعه الحالي وأن تصبح أسرته قادرة في المستقبل على تغيير هذا المكان وأن تمد لها يد المساعدة حتى تعيش حياة طبيعية بين الأحياء.