في ذكرى استشهاده الـ(12)

المزيني يروي للرسالة نت حكاية مصاهرته الشيخ ياسين

د. أسامه المزيني ( القيادي في حركة حماس)
د. أسامه المزيني ( القيادي في حركة حماس)

غزة-حاوره محمد أبو زايدة

سمِع أنّ شيخًا يقيم في مسجدٍ يقدّم هدايا ثمينة لمن طرق بابه، غمرته السعادة وكتب رسالة فيها قائمة من الأمنيات المتمثلة بـــــ "كُتبٍ ثقافية ودينية"، وتوجّه إلى مسجد المجمّع الإسلامي شرق مدينة غزة، ووجد شيخاً قعيدًا دائم الابتسامة، سأله بكل براءة: "أنت الشيخ أحمد ياسين؟".

أومأ القعيد برأسه ليجيب بـ"نعم"، وأشار للفتى بالجلوس، ثم سأله عن اسمه فأجاب: "أنا أسامة المزيني، أبلغ من العمر (14 عامًا)، وتمّ تعييني أمينًا لمكتبة مسجد ابن عثمان في حي الشجاعية شرق مدينة غزة"، توقّف عن الحديث لحظةً وهو يتأمّل نظرات الشيخ أمامه.

وما إن تبسّم الشيخ وقال للفتى أكمل، حتّى شعر بنشوةٍ للحديث، واسترسل: "مكتبة المسجد لا تحتوي إلّا الكُتب القليلة، وسمعت أنّ شيخًا يقدّم هدايا سخيّة لمكاتب المساجد، فكتبت قائمة بما ينقصنا، لتصبح مكتبتنا عامرة".

نظر الشيخ ياسين إلى القائمة، فكانت تحمل في طيّاتها مئات الكُتب، فأخبر الفتى أن يأخذ ما تحتاجه مكتبة مسجده، ويقلل من الأعداد "لأنّ المجمّع يأتيه الجميع من كلِ حدبٍ وصوب لإعمار مكاتبهم بالكُتب"، ويعلّق على ذلك المزيني بالقول: "وضعت القائمة وفق قاعدة "إللّى ببلاش كثّر منّه"، وفق تعبيره.

موقفٌ عمره يزيد عن خمس وثلاثين عامًا، إلّا أنّه لا يزال حاضرًا في وجدان القيادي في حركة حماس ووزير التربية والتعليم سابقًا أسامة المزيني، لاسيما أنه أوّل لقاء جمعه مع الشيخ المؤسس لحركة المقاومة الإسلامية حماس أحمد ياسين.

استشارات

وقد توالت لقاءات المزيني مع الشيخ ياسين بحكم عمله أمينًا لمكتبة، وفي ليلةٍ أثناء تحضيره لدروس الصف الثاني ثانوي؛ وصله أوّل استدعاء من المخابرات "الإسرائيلية" للتحقيق معه بشأن نشاطاته المتوالية.

"كُنت يومها أشتري كُتبًا من مكتبة مسجد الإصلاح، فالتقيت بالشيخ ياسين، وأخبرته أنّني لأول مرة سأتعرض للتحقيق من المخابرات الإسرائيلية، وطلبت منه النصيحة"، يقول المزيني.

"السلطة قدمت عروضًا وإغراءات للشيخ لشراء مواقفه لكنّه رفض"

وبعدما علِم الشيخ ياسين بذلك، أخبره بجملة لا تزال عالقة بذهنه، "يا ابني وأنت عند المخابرات، تعامل بمبدأ كذب مصفط ولا صدق مخربط، أي تحدث بكلام موزون ومرتب حتى لو كذبًا فسيكون مقنعًا، ولا تتعثر بحروفك وتجيبهم بصدق وتضر من خلفك"، تابع المزيني.

واجتاز المزيني مقابلة المخابرات بفضل ارشاد "ياسين"، وازداد نشاطه بالكتلة الإسلامية، إلى أن تمّ اعتقاله وهو في الثانوية العامة مرتين، إحداها على خلفية نشاطه الإسلامي، والثانية مكث خلالها (14 يومًا) في أقبية التحقيق، ولم يفلح الاحتلال بنزع اعترافٍ منه، فأفرج عنه.

ومع دخوله الجامعة درس في كلية التربية الارشاد والصحة النفسية، وترشّح لمجلس الطلاب في الجامعة الإسلامية عام (1987)، وتمكّن من الفوز وترأس المجلس، إلّا أنّ ذلك تزامن مع اشتعال الانتفاضة الأولى، حيث أغلق الاحتلال أبواب التعليم لفترة طويلة، ومن بعدها تمّ اعتقال المزيني على خلفية نشاطاته، واستمر ذلك لثلاثة أسابيع وتمّ الافراج عنه بعدها.

مصاهرة

واستمرّت العلاقة تزداد تطوّرًا بين الشيخ ياسين والمزيني، إلى أن رغِب الأخير بالزواج وعمره (23 عامًا)، واستمر بالبحث عن فتاة يرتاح لها قلبه، يقول: "في كلّ مرةٍ تحضر لي الوالدة اسم فتاة لأرتبط بها، أستخير الله في ذلك، فلا أشعر بالراحة، وأرفضها".

وبقيت صلاة الاستخارة للارتباط بفتاة؛ ملازمة للمزيني طيلة (6 شهور)، حتّى دلّه أحد المقربين منه، أنّ الشيخ ياسين لديه فتاة في الثانوية، وتسمّى مريم.

يقول المزيني: "استخرت ربّي قبل أن أرسل والدتي لتقابل الفتاة، وارتحت لمريم قبل أن أراها، وخضع قلبي لها، وحصل التوفيق من أوّل نظرة"، وبدأت علاقة الشاب بالشيخ؛ تزداد متانة.

"تعلّمت من الياسين حُب المساكين والعمل مع الحركة في كل الظروف"

كلّما ذكر المزيني اسم الشيخ ياسين، تتغيّر نبرة صوته، ويغيّر من حركات يديه اللتين لم تثبتا طيلة المقابلة، وبعد لحظة صمتٍ عقبت سؤالنا عن مواقفٍ عايشها مع الياسين، قال: "رحمه الله كان أمّة، وعملاقا في تعامله مع جميع من عرفه".

يتابع سرد موقفٍ عايشه مع الياسين: "وصلنا تبرّع بملابس فاخرة تكفي لـ(100 شاب) من المحتاجين، فاقترحت أن نبيعها ونشتري ضعف العدد بأقل جودة". كان أوّل إجابة سمعها المزيني على اقتراحه، "لا"، وأكمل الشيخ ياسين قوله بعد رفضه: "هل يجب على الفقير أن يلبس أبسط الملابس دائمًا؟، ألا يحق له أن يلبس الفاخرة؟".

وأمّا عن علاقته مع أصهاره، يروي المزيني قصّة زواج مرافق الشيخ خميس مشتهى من ابنته خديجة، التي لم تتجاوز الــ (19 عامًا) آنذاك قائلاً: "تقدّم أحد مرافقيه لخطبة ابنته، لكنّ وضعه المادي صعب جدًا، ولا يمتلك من مقومات الزواج شيئا، لكنّ الياسين وجده على خلق ودين".

جالس الشيخ ياسين الشاب خميس، وقدّم إليه "مهر" ابنته، وأخبره أنّ هذا "لتتزوّج وتكمل نصف دينك"، ثم اشترى لكليهما بيتًا وأقاما فيه، إلى أن استشهد الزوج مع عمّه الشيخ ياسين في قصفٍ إسرائيلي.

في هذه اللحظة، بدأ صوت المزيني يتغيّر "حنينًا وشوقًا"، إلى أن غيّر مجرى حديثه مفتخرًا بنسبه للشيخ ياسين، حيث قال: "من الأشياء التي دفعتني لمصاهرته، قول الله تعالى في سورة الكهف "وكان أبوهما صالحاً"، وقرأت بتفسير هذه الآية أنّ المقصود بالأب هو الجد من طرف الأم".

شراء مواقف

حياةُ المزيني كانت دومًا بالقرب من الشيخ ياسين، وكلّما احتاج النصيحة أو الارشاد؛ ذهب إليه مستمعًا، وما أن يعود لبيته حتّى يشعر بالسَكِينة في صدره.

لم يمل ضيفنا الحديث عن الياسين، حيث أخبرنا عن موقف سياسي، قائلاً: "لو أراد الشيخ أحمد الدُنيا؛ لفتحت له جميع الأبواب، لكنّه أبى ذلك". وتابع: "عندما خرج الياسين من السجن؛ عرض عليه الراحل ياسر عرفات أن يقدّم له هديّة، فرفض الشيخ ذلك، لأنّ الأخير يمثّل سياسة سلطة يختلف نهجها عن رؤية الآخر".

أصرّ عرفات على تقديم هدية لياسين، واشترى له سيّارة فارهة، لكنّ الأخير ردّها إليه، فاشترى باصًا مكيّفًا مع متطلبات الشيخ، لكنّه ردّه أيضًا، وقال لأبو عمّار: "لا يناسبني بحكم أنني مقعد".

بدت الحيرة على أبو عمّار في كيفية تقديم هديّة لا يردّها الشيخ ياسين، فأوصى على "جيب لاند روفر" مخصص لذوي الاحتياجات الخاصة، يعقّب على ذلك المزيني بالقول: "لم يستطع الشيخ رده لأنّه أوصل رسالته في أكثر من مرّة".

"ارتحت لمريم ابنة الشيخ قبل أن أراها وخضع قلبي من أول نظرة"

ويضيف المزيني: "كان واضحًا أنهم يقدمون له الهدايا ليشتروا منه المواقف، لاسيّما بالعمل العسكري والسلاح، لكنّ الشيخ أخبرهم أنه شخص لا يُشترى، وطلبوا منه بعض المواقف عقب هداياهم، إلّا أنّه أكد لهم أنّه لن يتزحزح عن موقفه".

واستمرّ الحال بين الطرفين على ذات النهج، الأوّل يقدّم إغراءات؛ والطرف الآخر يرفضها، وبسبب رفضه يتعرّض للتضييق والخناق والحصار.

يوم الجمعة، التاسع عشر من مارس/آذار عام 2004، تجوّل المزيني في سوق الشجاعية، فأخبره أحد المقربين أنّ الشيخ ياسين يُعاني من وعكة صحية، وبعد صلاة الجمعة توجّه إلى بيت عمّه وجالسه، وشعر أنّه مجهد ومرهق جدًا، وبعد انقضاء الزيارة غادر إلى بيته وأخبر زوجته أن تذهب لزيارة والدها لأنّه "بدا عليه التعب".

يستطرد ضيفنا: "أرسلت زوجتي إلى والدها، وبقيت بجواره منذ صباح السبت حتّى نهايته، وتصادف ذلك اجتماع جميع بنات الشيخ ياسين".

 لحظة الاغتيال

ومع مساء يوم الأحد، طلب الشيخ من أبنائه ومرافقيه أن يصحبوه للاعتكاف بمسجد المجمّع الإسلامي، "لأنّه يجده ملاذًا ويبعث في نفسه الراحة"، وبعد صلاة الفجر جلس مع طلابه الذين شكّلوا حلقة يتدارسون القرآن وعلومه، ومع انتهاء مجالستهم طلب منهم أن يُعيدوه لبيته، فأخبره أحد أبنائه أنّ السماء ملبّدة بالطائرات، وربما هي تنتظرك، فردّ عليه الياسين قائلًا: "أنا اللي بأنتظرهم".

وأثناء عودة الشيخ ياسين إلى بيته في صبيحة الثاني والعشرون من مارس/آذار عام 2004، سمِع المزيني صوت انفجاراتٍ متوالية، قبض قلبه، وفتح على التلفاز ليشاهد وقوع الانفجار، وقلّب المحطات واحدة تلو الأخرى، حتّى قرأ شريطًا إخباريًا يقول: "الطائرات الحربية الإسرائيلية تقصف منزل الشيخ أحمد ياسين"، لم يصدّق الخبر للوهلة الأولى، وقرأ أكثر من ثلاثة تعديلاتٍ على الشريط الإخباري في مدة لا تتجاوز الدقيقة، حتّى قرأ خبرًا "الطيران الحربي يغتال الشيخ ياسين أثناء عودته من مسجد المجمّع الإسلامي".

نادى المزيني على زوجته، وحدثها بالخبر، وتوجّه إلى مكان الاستهداف، وعلِم أنّ الشيخ استشهد من الصاروخ الأول بشكلٍ مباشر في رأسه، ثم استهدفته طائرات الاحتلال بعدّة صواريخ لتقضي على أي محاولة لإنقاذه.

كانت دمعة المزيني قريبة أثناء حديثه عن استشهاد الشيخ ياسين، وما زال محتفظًا بتوصيات الشيخ "الدينية، والأمنية، والعسكرية، والسياسية، والدعوية، والتعليمية"، وأكثر ما اقتبس منه، "حبّه للمساكين، والعمل مع الحركة الإسلامية في كلّ الظروف".

وفي نهاية حديثه مع "الرسالة"، يقول المزيني: "لو كان الشيخ ياسين بيننا، ما وصلنا لما نحن فيه، فلقد كان عميق النظر، وصاحب رؤية، وإن كان حاكمنا في هذه الأيّام؛ فستكون الأمور أفضل من حيث الخبرة والإخلاص والنور والبصيرة".

البث المباشر