مهما اختلفت آراؤهم السياسية وجنسياتهم، ومعتقداتهم الدينية أو ثقافاتهم، يبقى العدل والسلام رغبة مشتركة بين جميع البشر، ويشكل ما يعدّ التاريخ البشري أيضا تاريخا من البحث عن العدل والسلام.
بداية من اسمه المنحوت من الجذر العربي "سلم"، يأمرنا الإسلام بإقامة العدل في جميع مجالات الحياة السياسية والتجارية والاجتماعية والاقتصادية، ويحضنا على العدل بدءا من الأسرة باعتبارها نواة المجتمع. وعلى مدار التاريخ الإسلامي الممتد لأربعة عشر قرنا، كانت السمة الأكثر بروزا لدى دول المسلمين التي تأسست في أفريقيا وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط هي أهمية إرساء العدل والسلام.
لكن مع ذلك نلاحظ اليوم أن المدن الإسلامية التي يُفترض أن تكون رمزا للعدل والسلام، أضحت عوالم تفتقر أشد الفقر لهذين المفهومين، ابتداء من سوريا مرورا بالعراق وأفريقيا الوسطى وليبيا، إلى فلسطين واليمن، يكافح الملايين من إخواننا وأخواتنا من أجل البقاء، ويتوقون للسلام والأمان والكرامة الإنسانية.
أما المدن القديمة الزاخرة بأعمال الحضارة الإسلامية الفنية، وبالمكتبات والمساجد والأضرحة وغيرها من الآثار التاريخية، فيتم تدميرها وتحويلها إلى أنقاض أمام أعيننا على أيدي المنظمات الإرهابية والأنظمة الوحشية.
يُسحق العالم الإسلامي اليوم تحت وطأة أخطر المشاكل التي يواجهها منذ الحرب العالمية الأولى، فالعديد من الدول الإسلامية تُحرم من السلام والأمان جراء المواجهات المسلحة والحروب الأهلية، والدول المنهارة، والهياكل السياسية المتداعية.
لقد أضحت هذه المشاكل تمثل تهديدا ليس فقط على الاستقرار الإقليمي بل على السلام العالمي؛ فكما هي الحال في سوريا أسفر تدخل الدول الأجنبية التي لا تتمتع بأدنى دراية بمجتمع وثقافة وقيم وتاريخ المنطقة، ومن خلال استخدامها الأسلحة ودعمها الحكومات غير الشرعية لخدمة مصالحها الخاصة، أسفر عن الوصول بتلك المشاكل إلى طرق مسدودة.
علاوة على ذلك، أسفر التحريض الطائفي عن انقسام أكبر في صفوف المسلمين، وتبقى حقيقة أن أوروبا عالجت هذه المعضلة في وقت مبكر من القرن السابع عشر، بينما لا يزال العالم الإسلامي أسيرا لها في القرن الواحد والعشرين، وهو أمر يتعين علينا أن نوليه اهتماما فائقا.
لقد تمت إثارة هذا الخلاف الذي يقوم على أسباب سياسية لا دينية باسم الجشع السياسي والمصالح القصيرة الأمد، وتظل المنظمات والقوى الإرهابية المعروفة بالعداء الذي تكنّه للإسلام أهم المستفيدين من هذه السياسات التي تحرض على الكراهية والعداء بين الجماعات العرقية والدينية وأبناء مختلف الطوائف الذين تعايشوا معا لقرون خلت.
وصارت بعض فئات المجتمع لاسيما الشباب، الذين أضحوا يسعون خلف قيم جديدة كردة فعل على التوترات الطائفية والاجتماعية، عرضة لاستغلال المنظمات الإرهابية مثل داعش والقاعدة، ولا يمكن للدول الإسلامية ولا ينبغي عليها أن تقف مكتوفة الأيدي أمام مثل هذا الوضع.
لم تعد مشكلة الإرهاب في عصرنا الحاضر معنية بعدد محدود من البلدان والمناطق، بل اكتسبت بعدا عالميا، ويبقى أكثر المتضررين من موجة الإرهاب الممتدة من أوروبا إلى جنوب آسيا، ومن غرب أفريقيا إلى القارة الأميركية، هم مرة أخرى المسلمون، ورغم اختلاف قوى الحقد في الأسماء والأيديولوجيات تتشاطر جميعها الهدف ذاته، إنها تحاول تدمير الذاكرة والقيم المتراكمة وحاضر ومستقبل المسلمين.
ويعمل دعم تصعيد العنصرية والتمييز وكراهية الأجانب والإسلاموفوبيا في المجتمعات الغربية على الإساءة وإثارة جميع المسلمين، ويتم اليوم بالعديد من المدن في أوروبا إضرام النار ومهاجمة المساجد والزوايا وأماكن العمل والمباني التابعة للمسلمين، ولذلك فمن المحتم علينا أن نقف ضد إقحام المسلمين واتهامهم بأمور لم يضطلعوا فيها بأي شكل من الأشكال، ولكنهم يدفعون مع ذلك لقاءها أبهظ الأثمان.
كدولة حاربت ضد منظمة إرهابية انفصالية لمدة ثلاثين عاما، وضحّت بأربعين ألفا من مواطنيها جراء الهجمات الإرهابية، نعلم جيدا الهدف من وراء الإرهاب والمسار والدمار الذي أحدثه، ونحاول جاهدين إقناع المجتمع الدولي من أجل صياغة موقف مشترك بشأن هذه المسألة.
لكن لا بد لي من القول مع الأسف إن الحساسية اللازمة والموقف الحازم لم يظهرا عندما تعلق الأمر بالمنظمات الإرهابية التي تعد عدوا للبشرية جمعاء.
وعلى الرغم من أن حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) ووحدات حماية الشعب (YPG) يعملان بوصفهما الذراع السورية لمنظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية، يجبران إخواننا وأخواتنا العرب والتركمان على مغادرة المناطق التي قطنوا فيها لآلاف السنين، وينفذان عملية تطهير عرقي، ويعذبان السكان الأكراد لعدم تبنيهم أفكارهما، فإنهما لا يزالان يتمتعان بالقبول، بل يدعمان كشريك جدير بالثقة من قبل العديد من البلدان.
وأيا كانت الأسباب، فإنه من الخطأ الفادح أن نفرق بين المنظمات الإرهابية، وأن نحاول محاربة "الإرهابيين الأشرار" بمساعدة من يسمون "الإرهابيين الأخيار"؛ هذا النهج من سياسة الكيل بمكيالين يشجع المنظمات الإرهابية ويقوّض جهود الكفاح ضد الإرهاب.
ولذلك فإن الطريقة الوحيدة لهزيمة التنظيمات الإرهابية تمر من خلال تعزيز التعاون والتضامن بين أعضاء المجتمع الدولي، مع تقلّد المسلمين منصب القيادة، وأنا مؤمن بأن الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي سوف يضطلعون بدور قيادي في هذا المسعى.
علينا نحن المسلمين أن نرفع أصواتنا ضد كل أنواع الظلم بصرف النظر عن منفذيه ومصدره، وعلينا الوقوف بجانب الضحايا أيا كانوا، فهوية الظالم أو الضحية ليست ذات أهمية. وانطلاقا من هذا الأساس فتحت تركيا أبوابها أمام اللاجئين الذين يحاولون الفرار من الصراعات المسلحة في سوريا والعراق، لم نتخل عنهم أو نتركهم تحت رحمة المنظمات الإرهابية أو الأنظمة التي تطبق إرهاب الدولة.
واليوم يعيش أكثر من ثلاثة ملايين من إخوتنا وأخواتنا من سوريا والعراق في العديد من المدن والمخيمات التركية كضيوف على دولتنا، وسنواصل رعاية إخواننا وأخواتنا حتى تضع الصراعات المسلحة أوزارها، وحتى يحل السلام في أوطانهم مرة أخرى.
تستضيف إسطنبول هذا الأسبوع مؤتمر قمة قادة منظمة التعاون الإسلامي الثالث عشر، وخلال ما يربو على نصف قرن تقريبا منذ تأسيسها، أضحت منظمة التعاون الإسلامي عبر الجهود التي تبذلها البلدان الأعضاء، أكبر منصة تناقش وتتشاور حول قضايا العالم الإسلامي، حيث يتم فيها تبنّي أهم القرارات بشأن تلك القضايا.
وتحظى قضية فلسطين والقدس التي كانت السبب الأول وراء تأسيس المنظمة، بالأولوية بين بنود جدول الأعمال، ونحن نؤمن بأن المشاكل السائدة في العديد من الأماكن ضمن منطقتنا، وخاصة في سوريا والعراق، مدرجة أيضا ضمن أهم مسؤوليات المنظمة.
لا بد لي من التأكيد مع التشديد الخالص على أننا نجتمع هنا في إسطنبول في الثالث عشر والرابع عشر من أبريل/نيسان الجاري ليس بوصفنا شيعة وسنة، أفارقة وآسيويين، شرقيين وغربيين، سودا وبيضا، أغنياء وفقراء، من أبناء هذا العرق أو ذاك، بل بوصفنا قادة يتحملون عبء مسؤولية 1.7 مليار مسلم وأعباء البشرية جمعاء. نجتمع هنا كأعضاء في حضارة تؤمن بأن الإنسان أكثر المخلوقات تكريما وتنص أن على الإنسان أن يحيا إذا أردنا للدولة أن تحيا.
نحن ندرك العبء الثقيل الذي نحمله على عاتقنا خلال هذه الأوقات الصعبة، وأعتقد بأن علينا أن نقارب مشاكلنا من خلال إعطاء الأولوية لقضايا الأمة وإعلائها فوق مصالحنا الفردية، لنترك بالتالي بصمتنا في القرن الواحد والعشرين، ليس من خلال العمل كقوة حامية فحسب، وإنما وفي الوقت عينه كقوة مؤسسة وبناءة وموجِهة، وهذا أمر في غاية الأهمية بالنسبة للمجتمع الإسلامي الذي يشكل ربع سكان العالم، كي يستطيع أن يتبوأ مكانته التي يستحقها ضمن النظام العالمي.
إن اعتماد وثيقة "IIT-2025: خطة العمل" التي تحدد الأهداف على مدى السنوات العشر المقبلة في قمة إسطنبول، ستكون -إن شاء الله- خطوة قيمة للغاية في هذا الاتجاه، وخلال فترة رئاستنا للمنظمة سنبذل كافة ما في وسعنا لضمان نجاح هذه الخطة.
أتمنى أن تعمل القمة الإسلامية الـ13 على تعزيز الآمال من أجل السلام والعدل لأمة أنهكتها الصراعات الطويلة، وأشكر جميع القادة والضيوف الذين سيشرفون اجتماعنا، وأدعو الله أن تكون هذه القمة لصالح البشرية جمعاء.