يعاني الاقتصاد الغزّي من خلل في بنيته التكوينية، متمثلة في توسع القطاع الخدماتي بشكل كبير جدا على حساب القطاعات الأخرى الصناعية والزراعية.
ويقف الحصار خلف توجُّه المستثمرين نحو القطاعات الخدماتية، وعزوفهم عن القطاعات الأخرى التي تعتبر أساس البنية الاقتصادية في أي دولة.
وتشير الأرقام والاحصائيات إلى أن الاقتصاد الفلسطيني في قطاع غزة يعتمد بشكل كبير على القطاع الخدماتي في ظل ندرة العمل في القطاعات الصناعية والزراعية التي تواجه سياسة ممنهجة من الاحتلال لتدميرها باعتبارهما أساس الاقتصاد.
وأكد مختصون أن الأسباب الحقيقية وراء هيمنة وتوسع القطاع الخدماتي يعود للاختلالات الاقتصادية التي تعزى في معظمها إلى القيود (الإسرائيلية) والاعتماد على المساعدات المالية الدولية.
"الرسالة" توصلت لنتيجة مفادها أن التوسع في الخدمات أكثر من اللازم يُصعّب من فرص تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، مما يستوجب صياغة سياسات تهدف إلى تعزيز أنشطة خدمات الأعمال والخدمات المالية.
مضايقات الاحتلال
من جهته، أرجع رزق الحلو مدير عام الإدارة العامة للسياحة بوزارة السياحة في غزة سبب تنامي الاستثمار بقطاع الخدمات بصورة كبيرة، إلى سياسات الاحتلال (الإسرائيلي)، حيث أن الفلسطينيين يواجهون معيقات كثيرة في التوسع بالقطاعات الأخرى، الأمر الذي دفعهم للجوء لقطاع الخدمات باعتباره الأقل قيودا من القطاعات الأخرى.
وتتجلى مظاهر هذا التوجه مع افتتاح عدة منتجعات ضخمة بصورة متزامنة، وعشرات الاستراحات والعديد من مشاريع الخدمات اللوجستية من نقل وتوصيل.
وقال الحلو إن الزيادة في عدد المشاريع تنم عن أن السياحة الداخلية ورغم الظروف الصعبة موجودة، "والمستثمرون لا يزالون يؤمنون أن مشاريعهم تعود عليهم بعائد مادي في غزة".
ولفت إلى أن وزارته تخلق البيئة المشجعة للاستثمار في قطاع غزة، وتعمل على تهيئة السبل كافة للمستثمرين بما يعمل على إنعاش اقتصاد البلاد.
هاني أبو زيد صاحب مول "مترو" الواقع وسط مدينة غزة رأى أن ما دفعه للاستثمار في انشاء المول يعود للحصار المفروض على القطاع ومنع الاحتلال ادخال مواد خام للصناعات.
وذكر أبو زيد أن انتشار المولات في القطاع يُشجّع المنافسة ويُحرّك المياه الراكدة للاقتصاد، مشيراً إلى أن المولات أرخص سعرا من المحال التجارية الصغيرة.
وقال إن الكثافة السكانية المرتفعة في القطاع، تجعل من المولات مشاريع تجارية مربحة، حيث يكثر ارتياد المشترين للمولات وهو ما يعود بالربح على أصحابها.
وأضاف: "قبل سنوات قليلة لم تكن ظاهرة المولات موجودة في غزة، ولكن الآن نجدها تنتشر وبكثرة، وهذا دليل على نجاحها".
ويتفق رجل الأعمال سمير سكيك رئيس الهيئة الفلسطينية للمطاعم والفنادق والخدمات السياحية مع سابقه في أن توجه المستثمرون للخدمات يعود للظروف الراهنة التي فرضت عليهم الاستثمار في الخدمات.
وذكر سكيك أن أكثر من 30 منشأة سياحية أقيمت في الشهور الأخيرة، ما بين منتجعات ومحال كوفي شوب ومطاعم سياحية.
وأوضح أن تطوير الطريق الساحلي "شارع الرشيد" ساهم بإقامة المزيد من المنتجعات السياحية التي كان آخرها مجموعة المطاعم التي أقيمت في محيط حوض ميناء غزة وتجديد وتطوير منتجع الشاليهات.
ونوه إلى ما شهدته العديد من هذه المنتجعات وسائر الأماكن الترفيهية من ازدحام شديد مع بدء موسم الصيف، حيث لوحظ حالة اكتظاظ داخل كافة هذه الأماكن نتيجة توافد أعداد كبيرة من سكان مناطق جنوب قطاع غزة وشماله باتجاه مدينة غزة لتمضية أوقاتهم في هذه المنشآت السياحية.
ويرى سكيك أنه مع دخول فصل الصيف فإن العمل في هذه المنتجعات والشاليهات الخدماتية ستعمل بكامل طاقتها أو بنسبة تتعدى 70% وهو ما يحرّك اقتصاد القطاع.
وأشار إلى أن الطلب ارتفع على الخدمات الترفيهية التي تقدمها هذه الأماكن والمنشآت الترفيهية الأخرى كمدن الألعاب الخاصة بالأطفال التي حظيت بنسبة كبيرة من الاستثمار في هذا القطاع، وأقيمت غالبيتها على امتداد شاطئ الرشيد.
تشوه اقتصادي
وفي دراسة أعدها مركز "ماس" للدراسات الاقتصادية أفادت فيها أن التوسع في الخدمات التقليدية لن يؤدي إلى تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، ما يتوجب صياغة سياسات تهدف إلى تعزيز أنشطة الأعمال والخدمات المالية اللازمة لتحقيق النمو في الإنتاجية.
احصائية: الخدمات تساهم بنسبة أعلى في الناتج المحلي في قطاع غزة عن الضفة الغربية، حيث يساهم بنسبة 62% من نسبة الناتج المحلي الإجمالي في غزة، في حين يساهم قطاع الخدمات في الضفة الغربية بنسبة 56%.
وأكد "ماس" أنه ينبغي على واضعي السياسات الاهتمام بالقطاعات الإنتاجية التي من شأنها زيادة مساهمة الخدمات الحديثة في قطاع الخدمات.
ووجدت الدراسة أن الإفراط في الاعتماد على الخدمات ذات الإنتاجية المنخفضة "لا سيما خدمات التوزيع" تؤثر سلبا على مستوى ونمو الإنتاجية في قطاع الخدمات والاقتصاد ككل، ما قد يؤدي إلى ركود في النمو الاقتصادي.
وأشارت الدراسة إلى تميز الاقتصاد الفلسطيني كونه اقتصادا خدماتيا، حيث أسهم قطاع الخدمات بنسبة 57% من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، وهو يشغل 62% من إجمالي العمالة في العام 2012.
من جهته ذكر الخبير في الشأن الاقتصادي الدكتور معين رجب، أن الاستثمار في القطاعات السياحية والترفيهية المذكورة فرضته طبيعة الوضع القائم في قطاع غزة في ظل الحصار المفروض وصعوبة ادخال المواد الخام.
وذكر رجب أن اقامة المشاريع الخدماتية الاستثمارية سهلة جدا من الجهات الحكومية الرسمية، مشيرا إلى حاجة السكان لها والرغبة في زيارة هذه الأماكن في ظل الحصار الذي يدفع بالمواطنين للترويح عن أنفسهم وارتياد هذه الأماكن التي باتت تشكل حاجة ملحّة خاصة خلال فترة الصيف وإجازات المدارس والجامعات.
وأوضح أن نجاح المشاريع يرتبط بالإدارة والتخطيط الجيد لها، لافتا إلى أنها تحتاج لوقت من أجل الحكم عليها بالنجاح أو الفشل.
ويتفق أستاذ الاقتصاد في جامعة النجاح الدكتور نائل موسى مع رجب في أن سبب ارتفاع نسبة مساهمة قطاع الخدمات في الاقتصاد الفلسطيني؛ إلى الاهتمام به بنسبة أكبر من الاهتمام بالقطاعات الاقتصادية الأخرى، اضافة للحصار المفروض على قطاع غزة ويمنع حركة المواد الخام للصناعات.
الأسباب الحقيقية وراء هيمنة القطاع الخدماتي يعود للاختلالات الاقتصادية التي تعزى في معظمها إلى القيود (الإسرائيلية) والاعتماد على المساعدات المالية الدولية.
وقال موسى إن الاقتصاد الفلسطيني بصفة عامة يعاني تشوهًا هيكليًّا؛ لأن نسبة الاهتمام الأكبر يجب أن يحظى بها القطاعين الزراعي والصناعي ثم قطاع الخدمات، مشيرًا إلى أن الاقتصاد يسير بشكل مقلوب؛ لأن النمو الأكبر كان في الخدمات.
وأضاف: "أحد أسباب إحجام الفلسطينيين عن الاهتمام بالقطاعين الزراعي والصناعي؛ الاحتلال (الإسرائيلي) الذي عمل على تدمير القطاع الزراعي من خلال السيطرة على الأراضي الزراعية".
وأشار إلى أن الاحتلال حدّ من نمو القطاع الصناعي، ومنع عنه المواد الخام؛ ليزداد الاعتماد على الاستيراد من الخارج.
العامل محمد موسى في شركة "ديليفري" للخدمات اللوجستية، والتي تعنى بتوصيل الطلبات للأماكن المخصصة لها مقابل مبلغ زهيد من المال، قال إن خدمة "الديليفري" التي انتشرت في القطاع مؤخرا ولاقت رواجا، باتت من أكثر الأعمال نجاحا بسبب عدم اعتمادها على مواد خام أو صناعات احترافية.
وأوضح أن انتشار الشركات العاملة في الخدمات اللوجستية بشكل كبير أضر على عملهم، حيث باتت الحركة ضعيفة عما كانت في السابق.
وأشار إلى أن اتجاه الشركات للقطاعات الخدماتية جاء بسبب عدم تضرر هذا القطاع من الحصار المفروض على غزة، كما القطاعات الأخرى.
الخدمات تنمو باستمرار
في حين، لفتت دراسة "ماس" إلى أن ارتفاع مساهمة الخدمات التقليدية في الناتج المحلي الإجمالي والعمالة المباشرة وغير المباشرة على حساب الخدمات الحديثة (التجارة والخدمات المالية) له تداعيات اقتصادية خطيرة في ظل المصاعب المالية التي تعصف بالسلطة الفلسطينية، فإنه من غير المحتمل أن يقود الاعتماد على الخدمات الاجتماعية (الحكومية) إلى خلق فرص عمل مستدامة على المدى الطويل.
وترى الدراسة أن السلطة لم تتمكن منذ نشأتها من إحداث تغيير حقيقي في هذا الاعتماد على قطاع الخدمات، بل إن حصة الخدمات نمت على حساب القطاعات الإنتاجية.
وشهدت الضفة الغربية مساهمة قطاع الخدمات في الناتج المحلي نموا سنويا بمعدل 0.28%، في حين اتخذت حصة القطاعات الإنتاجية منحى تنازليا حتى عام 2012، كما أن العمالة في قطاع الخدمات في الناتج المحلي الإجمالي والعمالة في غزة بمعدل سنوي قدره 0.9% و1.4% على التوالي، وفق احصائية لـ "ماس".
وبيّن رجل الأعمال سكيك أن نسبة المخاطرة بالاستثمار في قطاع الخدمات محدودة، وهو ما يدفع أغلبية رجال الأعمال للتوجه لهذا القطاع في ظل الحصار الذي يعاني منه القطاع ومحدودية دخول المواد الخام.
ولفت إلى أن مشكلة الكثيرين من المستثمرين في هذه المشروع تتمثل في عجزهم عن تطوير مشاريعهم، وقلة الخبرة لدى الكوادر العاملة لديهم.
وأوضح سكيك أن هيئة المطاعم والفنادق والخدمات السياحية تحاول تنشيط القطاع الخدماتي وإطلاع المستثمرين فيه على جوانب القوة والضعف في هذا النشاط الاستثماري.
وتحرض الهيئة على وأن يسترشد المستثمر بجملة من المعايير قبيل إقدامه على الاستثمار العشوائي، لذا لا بد من الاعتماد على دراسات الجدوى التي تحدد فرص نجاح هذا المشروع أو ذاك، فالعديد من صغار المستثمرين تعرضت مشاريعهم للفشل؛ وفق سكيك.
واعتبر أن تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص يشكل مطلباً للنهوض بالقطاع السياحي وتنظيم سوق الاستثمار في المشاريع السياحية والترفيهية بشكل عام.
دعوة للتكامل الاقتصادي
وعدّ رجب نمو قطاع السياحة الداخلية مؤشراً على توجهات المستهلك المحلي ورغبته في تمضية أوقات فراغه والترفيه عن النفس خلال فترة الإجازات وعقب انتهاء فترة العمل بارتياد هذه المرافق السياحية، التي باتت في ظل الحصار المفروض وصعوبة السفر إلى الخارج تشكل متنفساً وبديلاً عن السياحة الخارجية.
وبيّن رجب أنها تشكل حاجة ملحة للمواطنين للتخفيف من الضغوط المعيشية والأزمات التي يعيشون تحت وطأتها مثل أزمة انقطاع الكهرباء التي دفعت بأعداد كبيرة لزيارة هذه المنتجعات لقضاء أوقات طويلة، خاصة خلال فترة الليل والحصول على ما تقدمه من خدمات ترفيهية تتلاءم كلفتها مع القدرات المالية لمختلف الشرائح الاجتماعية.
ودعا إلى ضرورة تعزيز التكامل والتعاون بين القطاعين العام والخاص وتأهيل الكوادر ومراعاة الأجور والحقوق العمالية حتى تتوفر فرص النجاح لهذه المشاريع.
بدورها، عزت دراسة "ماس" التوسع في الخدمات إلى انكماش حجم القطاعات الإنتاجية الأخرى، لا سيما الصناعات التحويلية.
وأشارت الدراسة إلى أن هيمنة قطاع الخدمات على القطاعات الأخرى بدأ مع الاحتلال (الإسرائيلي)، وأسهمت أنشطة الخدمات خلال الفترة (1967-1993) بأكثر من 45% من مجموع العمالة و50% من الناتج المحلي الإجمالي.
وعزت الأسباب الرئيسية وراء هيمنة وتوسع قطاع الخدمات التقليدية للاختلالات الاقتصادية التي تعزى في معظمها للقيود (الإسرائيلية)، والاعتماد على المساعدات المالية الدولية.
وقالت الدراسة إن قطاع الخدمات قائم إلى حد كبير على الخدمات التقليدية، والتي أسهمت في عام 2012 بحوالي 85% من مساهمة قطاع الخدمات في الناتج المحلي، واستوعبت ما نسبته 98% من إجمالي العمالة في هذا القطاع.
احصائيات وأرقام
وتظهر احصائيات عام 2013، أن أنشطة الخدمات تساهم بنسبة أعلى في الناتج المحلي في قطاع غزة عن الضفة الغربية، حيث يساهم بنسبة 62% من نسبة الناتج المحلي الإجمالي في غزة في حين يساهم قطاع الخدمات في الضفة الغربية بنسبة 56%، كما أن قطاع الخدمات يستوعب 77% من العمالة في قطاع غزة مقارنة بــ55% في الضفة الغربية، في حين أن النسبة الآن أكبر.
ويرى أستاذ الاقتصاد موسى، أن تنمية قطاع الخدمات لم ترافقها تحسين جودة، مشددًا على ضرورة وضع استراتيجية من خلالها يعمل على تنمية قطاع الخدمات بأعلى كفاءة ممكنة.
ونوه إلى أن الاقتصاد الفلسطيني يسير بطريقة غير مدروسة، تختلف فيها الأولويات، مضيفًا: "إن السلطة الفلسطينية اهتمامها الأول بالجانب السياسي قبل الجانب الاقتصادي، رغم أن القاعدة الأساسية للتحرر من الاحتلال تكون من بوابة الاقتصاد، وتعزيز صمود الشعب الفلسطيني".
وشدد موسى على ضرورة سير المسارين السياسي والاقتصادي على خطين متلازمين، وعدم ترك الاقتصاد تحصيل حاصل، مضيفًا: "ترك الوضع الاقتصادي لردود الأفعال أدى إلى ضعف التنمية المستدامة، وجعل المسئولين عند أول أزمة يبحثون عمن يقدم لهم دعمًا اقتصاديًّا".
ويشار إلى أن عددًا من التقارير الفلسطينية المحلية تشير إلى مساهمة قطاع الخدمات الفلسطيني بحوالي 60 % من الناتج المحلي الفلسطيني، وتوفير نحو 300 ألف فرصة عمل.
وبالنظر إلى الأرقام السابقة، نجد أن الاقتصاد الغزّي يعاني من خلل في تركيبه، يستدعى أصحاب القرار للنظر في بنيته واعادة ابراز القطاعات الصناعية والزراعية باعتبارها أساس الاقتصاد الفلسطيني.