دخلنا الشاعر والقاص والمترجم الفلسطيني مازن معروف، منذ أول جملة من كتابه "نكات للمسلحين" الصادر مؤخرا عن دار رياض الريس، إلى عالم غريب لحلم غريب لطفل (حلمت بأن لأبي عينا زجاجية) وتتواصل هذه الغرابة عندما يخبرنا الطفل الراوي أنه أفاق من حلمه بقلب بقرة مذعورة لكنه كان يبتسم. مفارقة غريبة ومربكة تمحو الخط الفاصل بين المرح والخوف والذعر والفرح.
هذا هو أول أسرار الكتابة السوريالية عند الكاتب المقيم بأيرلندا، وأول خيوط اللعبة السردية التي يجب أن يمسكها القارئ وهو يتابع نكاته الخطرة.
أسلوب معروف يأخذ من الكابوسية ذعرها، ومن السوريالية عمقها ومفارقاتها، ومن السخرية مرحها ولعبها الشبيه باللهو بالثعابين، وهذا ما يرفع هذا الكتاب إلى مرتبة مهمة من مدونة القصة العربية التي لم يزدها التراكم الكمي الشيء الكثير بعد الكاتب السوري زكريا تامر.
يمثل القسم الأول الذي حمل عنوان الكتاب مركزا سرديا أساسيا مما يرتفع به إلى مرتبة الوحدة المؤسسة، ويدور حول حكايات صبي مع والده زمن الحرب أهداه شتلة فلفل وكلفه بالعناية بها لكنه أخطأ مرة بأن أنزل على براعمها البصاق فعاقبه الأب بحزامه الجلدي، لكن هذه الصورة النموذجية للأب القوي في فضاء الحرب تهتز ليكتشف الابن ضعف والده من خلال حكايات يرويها أترابه عن تعرض والده للضرب من المسلحين.
ويتحول الابن إلى أضحوكة بين الأطفال بسبب والده الضعيف، فيقرر أن يعيد تشكيله من جديد بشكل يتأقلم مع ذلك الفضاء العنيف، فيسعى بكل الطرق لتحقيق حلمه مرة بمحاولة بيع شقيقه الأخرس ومرة بتكليف حارس خاص لوالده ومرة بإحداث تشوه في وجه أبيه يجعله يبدو مخيفا.
كتابة سيكولوجية
ينطلق البرنامج السردي لصاحب "ملاك على حبل غسيل" من افتراضات وأحلام ومشاريع راو، فهو إما يحلم أو يتدبر صناعة نكت أو يفترض أنه شخصية أخرى. لا شيء ما معطى وكأن الكاتب على العقيدة السردية لسليم بركات يريد من قارئ روايته أن يقول إن هذه الشخصية لم تعترضه من قبل لا في الشارع ولا في غيره.
لقد تحول السرد في هذا الكتاب إلى بحث في سيكولوجية الأب في البداية، هذا الرجل الذي يتعرض في الشارع لشتى أنواع الانتهاك من السلطة، وهنا تمثلت في المسلحين، ليعود إلى بيته فيصعد ذلك القمع الخارجي إلى ممارسة سلطته عبر تعنيف أبنائه كآخر ملاذ لتحقيق توازنه النفسي.
وهنا يمسك الكاتب بخيط سحري يربط عالم الأب وتحولاته وسقوطه في مواجهة سلطة أعنف وأقوى بعالم براعم الفلفل التي تتعرض للبصاق من الصبي الذي يحول مهمة الرعاية المكلف بها إلى إذلال وإهانة لأرواح الفلفل كما يفعل المسلحون بأبيه في الخارج.
لم يتوقف البحث السيكولوجي عند الأب فقط بل انسحب على كل الكتاب تقريبا، فهناك تناظر وتلازم بين شخصية الابن وشخصية الأب، ضمن جدلية الاعتراف بين السيد والعبد، فلا يمكن للابن أن يكون إلا بوجود أب قوي يعنفه ويروي عنه الابن لأترابه فنون التعنيف، غير أن هذا الأب يفشل في ابتكار أشكال جديدة للتعنيف ليجد الابن نفسه في مأزق أمام رفاقه، فلا حكايات مثيرة يرويها عن أبيه وسلطته لأن رفيقا من رفاقه فضح أمر ضعفه وشاهد المسلحين يضربونه.
النكات رشى
تلعب النكتة دورا محوريا في الكتاب، فالسلطة في حاجة لتسلية، والمسلحون الذين يحرسون البلدة يحتاجون لقليل من المرح ليقاوموا فضاء الرعب وليقوموا بواجب الحراسة وتأمين الأمن للمواطنين، ومن ثم كان على الضعفاء أن يقدموا الرشاوي والمتع، وقد لخصها مازن معروف في الحاجة إلى الضحك. لذلك عوقب الأب باجتراح النكت، وكان يقضي الليل مع ابنه يصنعون نكاتا للمسلحين يقدمها أثناء العبور بهم مقابل المرور بسلام.
الخوف من السلطة جعل الأب يتنازل عن طبيعة العلاقة الضرورية بينه وبين ابنه، إذ يجلس معه لحبك القصص المضحكة، ويسمح له بالتلفظ بأي كلام فاحش، والمهم أن تنتهي الجلسة بنسج النكتة وكسب يوم بلا إهانة من المسلحين.
وتتواصل الحاجة الى نحت النكات في قصص أخرى من الكتاب، حتى أفرد لها قصة بعنوان "نكتة" يحاول فيها الراوي الابن أن يخترع النكات من أجل عائلته ومن أجل أخيه الذي لم يره يوما يضحك.
كتاب معروف يداور فكرة واحدة هي النكتة في زمن الحرب ليسخر من الحروب وينزع عنها هولها. إنه كتاب مهم في السرد العربي المعاصر الذي بدأ يجترح مكانة عالمية بعد أن تخفف من الأيديولوجيا والقضايا الكبرى والتي كانت تضرب فيها المدائح رغم فداحة المستوى الفني حتى أطلق محمود درويش صيحته الشهيرة "ارحمونا من هذا الحب القاسي".