قائد الطوفان قائد الطوفان

أزهار المعتقل


رشا فرحات - غزة

جميلة الوجه كنت في ذلك النهار، ابتسامتي اختلسها من خلف نظرات أمي، وضحكاتي التي طالما حلمت أن أوزعها على الأطفال في عمري كانت تترنم صامتة مكبوتة مختلسة من وراء الستائر التي تفرضها أمي دوما علينا.

شعري أشقر مجعد وطويل، وكنت أنا وأمي بصحبة أختي الكبرى "يارا" في الحديقة المجاورة لمنزلنا، والتي ندخلها كل عام باستهجان، بعد أن يتوسط لنا احد الأقارب أو الأخوال صدفة إذا ما طلبنا منه ذلك بسرية تامة، فأبي لا دخل له بذلك، ويقول أن تلك مسؤولية أمي كاملة، وأمي لا تحب تلك الأماكن، وتعتبرها مكانا لانتشار القاذورات، أختي لا تريد الحركة، تخاف النهوض واللعب، فأمي بجانبها، ولا يجوز أن تتجرأ وتقدم على أي حركة دون إذنها، أمي لا تريدنا أن نوسخ ملابسنا، وتذكرنا كل لحظة بأكوام الثياب الذي تغسلها من اجلنا، وبشقائها وتعبها كل يوم بسبب حركتنا ولعبنا المتواصل في أرجاء المنزل، ولطالما قالت لنا أننا سبب شقائها وتعاستها في هذه الدنيا، على الرغم من أني أحب أمي كثيرا.. ويارا كذلك تحبها، لذلك نمتنع اليوم تلقائيا عن الركض فوق الحشائش الخضراء، إذعانا لأوامرها وخوفا من حرمانها لنا من الدخول إلى الحديقة مرة أخرى، ولكني استطعت أن ابتسم سرقة كعادتي بين الوقت والآخر إلى ذلك الطفل الجالس في تلك الزاوية البعيدة، واحذره بنظراتي المباغتة الوجلة من الاقتراب، كلما شعرت أن لديه نية في ذلك، فأمي لا تحب اللعب، كما أنها لا تحبنا أن نتحدث إلى أي من الغرباء، عرضت عليها مترددة بأن اشتري بسكويتا من ذلك البائع المتوقف بجانبنا، صرخت، توعدت وهددت .. ثم رفضت، فخفت أنا والتزمت الصمت فهي لا تحب أن نأكل في الشارع أو الحدائق، فاكتفيت في سعادة بالنظر فقط إلى ذلك البائع القريب الذي ينادي من بعيد ويروج لبضاعته الملونة على مسامعنا، اشتهي تلك البوظة التي يتناولها الأطفال من يديه، تبدو لذيذة وملونة، ولكن أمي رغم شهواتي الطفولية، لا تنصت إلا لصوت دقاتها، لا تستقبل شيئا منا، ترسل فقط أوامرها إلينا، والغريب أن يارا أصبحت تتلقى ذلك بصمت، لكني لا أستطيع الصمت فاللعب جميل والهواء العليل ينادي ويغريني لأتحرك صوبه، فأعاند أمي دون إرادتي، فتصرخ، ثم تقوم فتضربني، فلا اشعر، إغراء اللعب يشدني فأركض قليلا إلى الأمام، فأسمع صوتها المخيف: سلمى تعالي إلى هنا، ولكني لا أريد العودة فأركض واركض، وهي ما زالت تنادي: سلمى تعالي إلى هنا، حتى وصلت يداي إلى يدي ذلك الطفل فركضت ولعبت وتنفست حتى ابتسمت، ثم ضحكت حتى ارتفع صوت ضحكاتي في السماء، فغدوت اسمعه، ولم أكن قد سمعته منذ شهور، وغدوت أنادي على يارا من بعيد لتلحق بي، لكن يارا نسيت اللعب ولم تعد تعرف كيف يمكنها أن تضحك، ولا تكترث إلا لتلبية أوامر أمي، وتنظر إلي جاحظة العينين من بعيد محذرة مذكرة بما ينتظرني من عقاب في المنزل، وأمي ما زالت تنادي علي صارخة، سلمى تعالي إلى هنا، سلمى سأضربك حتى اكسر يديك... سأهشم رأسك أيتها الغبية ...

أفقت من فرحتي..وعدت إلى الواقع..أريد إن أعود إلى حيث تجلس هي، لألتزم الصمت وأعاود تنفيذ الأوامر لكن إحساسي بأن الوقت قد فات وبأن العقاب واقع لا محالة، هو من زاد الرعب في قلبي، مخاوفي تزداد، تخبو أصوات الضحكات من حولي، فأرفض إغراءات الأطفال لي وأفكر مليا بطريق العودة إلى حيث تجلس أمي، ذلك الطريق الطويل المرعب، والذي ينتظرني في نهايته عقاب مختلف، لأني خالفت دساتير أمي وأردت أن العب... فماذا ستكون نهاية اللعب، وما هي عاقبة فعلتي، لقد أجرمت حقا، لا يجوز أن العب مع الأولاد في الحديقة، ولا يجوز أن اركض على الحشائش الخضراء، ولا يجوز أن أكل المثلجات، ولا يجوز أن تقوم يارا لتلعب معي، كان من المفترض بي أن احترم الدستور...

عدنا إلى البيت صامتين، منتظرين للحكم على فعلتي الشنعاء، وتهديداتها تتواصل وشوقها لتنفيذه يزيد من سرعة خطواتها، أغلقت الباب فقطع صوته المرعب صوت دقاتنا الصامتة لتبدأ أمي بإصدار الحكم على ذلك الإثم الذي ارتكبته ...

تألمت كثيرا، وبكيت ونمت على أصوات نائمة بجانبي تخرج شهقات بكاء من أنفاس يارا النائمة إلى جانبي.. ودموعها الغالية منهمرة تتساقط  مثلما اعتادت كل ليلة.

البث المباشر