قائد الطوفان قائد الطوفان

تحت مجهر الرسالة

غزة: المباحث العامّة تسرد كواليس جريمة الحاجّة "البدري"

الرسالة نت-محمد أبو زايدة

المكانُ مظلم، والكهرباء مقطوعة؛ ولا إنارة سوى بعض "الليدات" التي تعمل على نظامِ بطاريات السيارات، وهدوء الليلِ يغلب على المشهد في شارع الجلاء وسط مدينة غزة؛ وصوت طرقاتِ أقدامٍ تقطع تمتمات عجوزٍ تقرأ قوله تعالى: "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب".

أغلقت الحاجّة ثُريا البدري (78 عامًا) المصحف وتوجّهت نحو باب منزلها لتستقبل الطارق، لكنّ دقّات اليدين توقّفت، وسمعت صوت مفاتيحٍ تحاول فتح القفل، ومع ثالث محاولة؛ دخل شابٌ في العشرينات من العُمر، فنظرت إليه العجوز وعلِمت أنّه جارها، فنهرته بصوتِها: "جاي تسرقني؟.. والله لأفضحك يا ابن ..".

مشاهد الحادثة التي وقعت الخميس 11/مايو/2016 يرويها المقدم سمير العريني مدير مباحث محافظة غزة لـ"الرسالة" خلال لقاء برنامج (تحت مجهر الرسالة)، والذي أشرف على مُجريات التحقيق وتمثيل مشاهد الجريمة.

يقول العريني: "التقت الحاجّة مع المُجرم على مسافةٍ بسيطة، ولأنّ جميع أبنائها يملكون مفاتيح البيت؛ فلا تقدِم على فتحه لأحد أيًا كان؛ لا سيّما ليلًا".

"لا يا إمّي"

أدارت البدري ظهرها مُتجهة إلى هاتفها المجاور لسرير نومِها، لكنّ القاتل محمود محمد الخُضري لحِق بها خشية أن ينكشف أمره، وأمسك بـ"زردية كبس" كان قد أحضرها ضمن مُستلزماتِ السرقة، وباغت المغدورة وانهال عليها بالضرب على رأسها".

نادت عليه بصوتٍ متحشرج ودماؤها تنساب من رأسها: "لا يا أمي.. لا يا أمي"، ثم توقّف بعد عدّة ضرباتٍ أفقدتها وعيها، وعلى سمّاعة هاتفه الذي كان مفتوحًا طيلة الجريمة، يحدّثه شريك الجريمة -أحمد جميل أبو كاشف- قائلًا: "انزل يا محمود، شو بتعمل، شو الصوت اللي عندك"، لكنّه لم يجبه واستكمل مهمّته.

كانت العجوز تئِنُ وجعًا، ودماؤها تغطّي وجهها، فلم يُحاول -الخضري-إسعافها والتوقّف عن السرِقة وتغيير مسرى هدفه، بل أسرع اتجاه حقيبته التي رافقته أثناء مهمّته، وأخرج منها "مِشرطًا" واتجه إلى البدري، وأمسك بيدها وقطع الوريد، ثم تركها تنزف إلى أن فارقت الحياة.

"أحبطنا جرائم قتل وسطو قبل تنفيذها خلال الفترة الماضية"

يتابع العريني: "اعتقد المُجرمان أنّ البيت خالٍ من ساكنيه، واستغلّوا قطع التيار الكهربائي، وكانوا قد راقبوا الشقّة لأيّام، وعاينوا "سوتش" باب المنزل، واشتروا عشرة مفاتيح من السوق عسى أحدها يفتح باب شقة العجوز، وقسّموا مهامهم بحيث يراقب الكاشف الحركة بالمكان، والخضري تكفل بتنفيذ الجريمة".

وبعدما قتل الخضري العجوز، سرق هاتفها و(الآي باد) الذي كان بجانب مصحفها، وبعثر "خزانة" ملابسها، ووجد في إحدى زواياها بعض الاكسسوارات، ثم أسرع اتجاه بقية غُرف البيت؛ وسرق بعض خواتم الذهب، ثم توجّه إلى حقيبته مرّة أخرى، وأمسك بمحرمة؛ ومسح آثار يديه عن المكان.

صدمة

صوتُ الهاتف الذي سرقه الخضري بدأ بالرنين قبل مغادرته المنزل الساعة (08:30) مساءً؛ ما سبب إرباكًا له، وكان المُتصل هو نجل الضحية -الدكتور بسّام البدري مسؤول دائرة العلاج بالخارج بوزارة الصحة، فأغلق الجاني الهاتف، ولاذ بالفرار مصطحبًا مسروقاته.

يستطرد العريني: "التقى الخضري بشريك الجريمة -الكاشف-؛ وأودع المسروقات في بيته إلى حين بيعها، وتمكنوا من بيع بعضها، وأمّا ابن العجوز فقد وصل إلى بيته؛ مفجوعًا بمشهد أمّه المغدورة؛ والدماء تملؤها".

وصل الشرطة والمباحث الفلسطينية اتصالٌ من العائلة بوجود جريمة في المكان، فهرعت الطواقم إلى المكان لمعاينته، وعلِمت في أوّل التحقيقٍ أنّ آخر اتصالٍ أجرته كان مع ابنتها المقيمة في مصر الساعة (08:30) مساءً، واتصل عليها نجلها ليصطحبها كالمعتاد في جولة مسائية الساعة (09:30) مساءً.

وأثناء معاينة المكان، ظهر دمها على آخر آية قرأتها من كتاب الله الذي تحفظه: "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب"، وعلِم العريني أنّها رُغم كبر سنّها تكمل تعليمها الجامعي -ماجستير، والذي أكد أنّها وصلت إلى غزة في شهر أكتوبر العام المنصرم بعد رحلةٍ إلى ابنتها.

يضيف العريني: "حصرنا الأشخاص موضع الشك، وبدأنا بمحيط المنزل، ثمّ وسّعنا دائرة الاشتباه، وطلبنا كشفًا بأسماء السجناء الذين أطلق سراحهم؛ أصحاب السجل الإجرامي (..) وكان الخضري من أوائل المشتبه بهم".

ويتابع: "اشتغلنا عن طريق البصمات والأدلة الجنائية، واكتشفنا أنّه سارق الهاتف والآي باد والذهب الذي كان بحوزتها"، ويشير إلى أنّ المباحث توجّهت إلى شركة جوّال لتحديد مكان الهاتف، لكنّ الأخيرة رفضت التعامل معهم.

"جوّال رفضت التعاون للوصول إلى قتلة الحاجة البدري"

ويعقّب على ذلك: "لو تعاونت معنا شركة جوّال؛ لاستطعنا الوصول إلى الجاني بشكلٍ أسرع، ولكانت معظم القضايا التي تتعلق بالهواتف كُشفت سريعًا".

رفضت جوّال التعامل

وأثناء التفاوض مع شركة جوّال لمعرفة مكان الهاتف، وصل العريني اتصال من أحد رجال الشرطة، وأخبره أنّ محل هواتف عُرِض عليه "آيفون"، فتوجّه طاقم المباحث إلى المحِل، وطلب من صاحبه أن يفتح كاميرات المراقبة التي تفرضها الداخلية على أصحاب محلات الذهب والجوالات.

كانت صورة الجاني واضحة في كاميرات المراقبة، وعند سؤال صاحب المحل عن الهاتف، أخبرهم أنّ الخضري حضر إليه وطلب منه أن يبيع الجوّال على "قِطعا"، وليس دفعة واحدة.

لكنّ المباحث طلبت من صاحب المحل استدراج الخضري إلى المكان، لا سيّما بعد فتح الهاتف؛ وظهور رسالة ترحيبية عليه تقول "مرحبًا ثُريّا البدري".

يتحدّث العريني: "وزّعنا فريقين لملاحقة الخضري، الأوّل يراقب بيته من الخارج وحركة الدخول والخروج منه، والآخر يرصد محل الهاتف الذي استدرجناه ليأتي إليه، وتسلّم من صاحب المحل الآيباد والآيفون بعد رفض الأخير بيعها بالقطعة -وفق ما طلبنا أن يخبر به الخضري- ثم تمكنّا من اعتقاله".

اعتراف بالقتل

وأثناء التحقيق معه؛ حاول الخضري التهرّب من الاعتراف، إلى حين تمكّن المباحث من اعتقال شريكه -الكاشف- والذي اعترف على الجريمة كاملة أثناء اصطحابه إلى مركز التحقيق.

حالة انهيار أصابت الخضري أثناء رؤية شريكه معتقلًا لدى المباحث؛ واعتراف الأخير على الجريمة كاملة، وبدأت حلقات الاعتراف بتفاصيل الجريمة، وصولًا إلى أسبقيات له تعود لقبل أسبوعين بسرقة (16 ألف دينار أردني)، ورجوعًا إلى أوّل سرقةٍ نفذها بصديقه أثناء سرقة هاتفه وعمره (13 عامًا).

ولم تتوقّف سرقة الخضري على الحاجّة "البدري"، بل اعترف أنّه كان يسرق من أفراد أسرته مستلزماتهم الأساسية، ليتعاطى من خلالها المُخدرات، وعقّب على ذلك العريني بالقول: "السقوط الأخلاقي مقدمة للسقوط في مجالات مختلفة".

وحتّى يتم ربط حلقات الجريمة؛ طلبت النيابة العامة من الخضري وشريكه أن يمثلا الجريمة في بيت المغدورة، وبقرارٍ من النائب العام في غزة -إسماعيل جبر-، أعطى قرارًا ببث الفيديو؛ بعد تصويره، عبر قنواتهم.

وأوضح العريني أنّ مسرح الجريمة -المكان الذي تقع به الحادثة- له دور مهم في الكشف عن الجاني.

"تمكنا من تطوير معدّات تساعد في ملاحقة المجرمين"

وقال: "أول من يدل على الجريمة وخيوطها؛ هو مسرح الجريمة، ويجب أن يكون أوّل من يحضر إليه ضباط الأدلة الجنائية ثم ضباط المباحث، وعدم العبث بمعالم المكان من العامّة أو أهل الضحية".

تطوّر في المباحث

وأشار إلى أنّ غزّة صنّعت مؤخرًا مجموعة من الأدوات التي تساهم بشكل كبير في ملاحقة المجرمين، لا سيّما في البصمات والأدلة الجنائية، والتركيز على المهندسين الذين يتابعون الابتزازات الالكترونية، مؤكدًا أنّه تم تخصيص طاقم لمتابعة الآيبهات والمصادر الالكترونية والأرقام السرية بهذا الجانب.

وأوضح العريني، أنّ طواقم المباحث في القطاع؛ تمكنت من الوصول إلى قضايا عالمية بغزة بجهد أصحاب الاختصاص.

واستطرد: "نحن متابعون للجرائم على مدار الساعة، قد يكون لدينا مشاكل لقلة الإمكانيات واستمرار الحصار، لكن لدينا طواقم عاملة، اتسمت بالجهوزية، والخبرة".

بدوره، أكّد أيمن البطنيجي، المتحدث باسم الشرطة الفلسطينية في غزة، أنّ القضاء لا يتعامل بردات الفعل، وإنّما يعطي الجميع -الجاني والضحية- كامل الحقوق بعيدًا عن العواطف.

وطالب أثناء كلمته (تحت مجهر الرسالة)؛ بتنفيذ أقسى العقوبات -التي قد تصل للإعدام- بحق مرتكبي جرائم القتل. ونوّه بأنّ الأمور السياسية والاقتصادية ورأي الشارع الغزّي يلعب دورًا في تنفيذ أحكام الإعدام بحق المجرمين، مشيرًا إلى أنّ العملية تحتاج إعطاء فرصة للجاني قد تصل لـ(6 شهور) من استئناف ودفاع عن النفس، حتى تنتهي القضية وينطق القاضي بالحكم.

من جهته قال مدير المباحث بغزة -العريني-، إنّ الجريمة في القطاع غير منظّمة، كما أنّها تقتصر على عدّة فئات، وهم أصحاب ملفات: "التشرد والسقوط الأخلاقي والمخدرات، أو من يتعرضون لعامل نفسي".

وطمأن العريني بأنّ أجهزته تتابع ملفت الجرائم عن كثب لمنع حدوثها في القطاع، مضيفًا "أحبطنا جرائم قتل وسطو قبل تنفيذها؛ خلال الفترة الماضية". وتابع: "تمكنت طواقمنا من ضبط مجموعة تحاول سرقة محل صرافة، وضبط مجموعة تستعد لترويج المخدرات، وضبط مجموعة تخطط للسطو على بيت امرأة، وإحباط محاولة خطف تاجر دواجن، وتم إلقاء القبض عليهم جميعًا أثناء استعدادهم لتنفيذ جريمتهم".

وما زالت عائلة البدري، تحتفظ بآياتِ أمّهم التي رتلتها قبل قتلها، وتنتظر أن تكون حجّة أمام القضاء لتنفيذ القصاص بحقّ الجناة.

البث المباشر