لا ترغب الدكتورة منى قشطة أن يأتي ليل هذا اليوم، فهي الجمعة الأولى الذي تعيشها دون نجلها محمود الذي ارتقى شهيدا الجمعة الماضية، بعد ان اعتادت على العشاء برفقته بالوجبة المحببة إليه التي كان يحضرها عند عودته إلى المنزل، إلى أن ينهي السهرة مع والدته بتقليم أظافرها.
ومع نهاية كل يوم، يعود محمود الذي توفي والده وهو في عمر ثلاث سنوات إلى المنزل يحمل بين يديه تشكيلة من الفواكه، يغسلها ويقدمه لوالدته التي ربت خمسة من الشباب وفتاتين بعد وفاة زوجها.
ما سبق وغيرها كانت بعضا من طقوس محمود في برّه لوالدته، ومما قالته أم إيهاب والدة الشهيد التي حصلت على الدرجات العلمية الثلاثة في أتون تربيتها لأبنائها الأيتام: "محمود أبرّ أولادي وبناتي، كنت أشعر أنني ابنته ولست أمه، من كثر الاهتمام الذي يقدمه لي على مدار اليوم، استشهاده كان بمثابة فاجعة".
ورغم أن يوم الجمعة لم يكن في جدول عمل محمود الذي يحفظ الأمن على الحدود الشرقية لمدينة رفح، إلا أن أحد زملائه لم يتمكن من الحضور، فأبلغ محمود أن يسد مكانه، فما كان منه إلا الموافقة كما اعتاد عليه زملاؤه في خدمتهم وقتما طلبوه لذلك.
أيقظ محمود الملقب بـ"أبا جندل" والدته لصلاة الفجر يوم الجمعة الماضية، وكذلك اتصل بشقيقه إيهاب الذي يقطن معه في نفس المنزل لأداء الصلاة، ومن ثم جهزّ نفسه وانطلق لعمله.
وعند اجتماع العائلة على مائدة الغذاء، افتقده شقيقه إيهاب، فاتصل به للسؤال عن مكانه، فأخبره أن اضطر للذهاب للعمل، قائلا: "الله يعين الشباب يخوي، ما بدي أقصر في حد، معوضة اللمة إن شاء الله، صحتين وعافية".
ومع استمرار القصف (الإسرائيلي) لنقاط المقاومة على حدود غزة في ذلك اليوم، لم يقبل الشهيد محمود طلب أخيه بترك نقطة الرصد التي يعمل بها، إذ قال في الاتصال الأخير عصر ذلك اليوم: "انا على ثغر، وما بتركه إلا بتعليمات يخوي".
وطيلة أيام عزاء الشهيد محمود الذي تخرج من قسم أصول الدين بالجامعة الإسلامية، جلس عشرات الأطفال الذين يحفظون القرآن على يده يخدمون الحاضرين إلى بيت العزاء، وكيف لهم ألا يتواجدوا في عزاء معلمهم الذي كان يحنو عليهم كأنهم أشقاؤه الصغار، ويحضر لهم كل ما يطلبونه في جلسات التحفيظ في مسجد الأنصار.
وتحتفي والدة الشهيد بأنها حصلت على وسام العلم بدرجة الدكتوراة، ووسام التريبة بان خرجت خمسة من الشباب من الجامعات المختلفة، وعملت على تربيتهم على مدار 23 عاما مضت، وها هي تختتمها بوسام الشهادة، بأن قدمت نجلها المحبب إلى قلبها شهيدا في سبيل دينه ووطنه.
ورغم أن الشهيد محمود من عائلة ميسورة الحال، ولديه عمل خاص في أحد المخابز منذ سنوات، إلا أنه أصر على الالتحاق بركب المقاومة منذ تسعة أعوام، حينما انضم لصفوف كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس، إلى ان ارتقى شهيدا بقصف إسرائيلي استهدف مرصدا للمقاومة شرق مدينة رفح.
وعند انتهاء العزاء، تجولت والدة الشهيد في غرفته، تنظر إلى متعلقاته، وملابسه، ومرت بصندوق المال الخاص به، فلم تجد سوى بضع شواكل، فلم تستغرب فهي التي تعلم ان ابنها لا يبخل على أي شخص يحتاج المساعدة، وعند الحديث إليه بان هناك من يصطنع الاحتياج كان يجيب: "أنا بعطي بالنية الصافية لوجه الله، مليش في نوايا الناس".
غادر محمود الدنيا، وبقيت لمساته محفورة في ذاكرة والدته وأشقائه وكل من عرفه عن قرب.