ذات ليلة وبينما كانت جالسة على مكتبها تواصل دراستها حتى ساعة متأخرة من الليل، قالت لشقيقتها "سأفاجئ ماما وبابا بمعدلي.. رح ينبسطوا كتير"، حديثها كان نابعاً من ثقتها بجهدها في دراستها منذ بداية العام الدراسي.
"فراشة الدار" التي لم تغب الابتسامة عن محياها حتى أصبحت تُعرف بها، كانت قد أعدت نفسها جيداً لاستقبال امتحانات الثانوية العامة هذا العام، حيث تقضي ساعات طويلة من الدراسة وهي من قطعت عهداً على نفسها بأن "ترفع رأس عائلتها في معدلها".
في صباح يوم الاثنين الرابع والعشرين من الشهر الحالي، استيقظت سوسن منصور "17" عاماً مبكراً كعادتها وبعدما انتهت من مراجعة مادة التربية الدينية، أعدت طعام الافطار لأولاد أخيها بعد قضائهم يوما كاملا من المرح معها رغم انشغالها بدراستها.
غادرت "سوسن" منزلها ذاك اليوم وعلى بعد 15 متراً من الحاجز العسكري المقام على مدخل قرية بيت إكسا، المجاورة لبلدة "بدو" مسقط رأسها كان نهاية الحلم بل والحياة، حين باغتت رصاصات جنود الاحتلال جسد الفتاة، بزعم محاولتها تنفيذ عملية طعن.
كان والدها في طريق عودته من عمله في مدينة القدس، حيث مر على حاجز بيت اكسا بعد وقت قليل من إطلاق النار على ابنته ولم يكن يتوقع ان تكون هي شهيدة الحاجز، نظر الوالد لصورة فتاة مضرجة بدمائها من خلال الهاتف النقال لسائق المركبة العمومية التي أقلته من القدس، بعد انتشار صورتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكان احساس الأبوة أقوى من الصورة فعرف أن الشهيدة هي "سوسن".
عمّ الخبر أرجاء قرية "بدو" فاعتلى الحزن وجه كل من عرف "سوسن"، فقد اكتسبت محبة كبيرة في أوساط عائلتها وقريتها لا سيما وأنها مصدر المرح الدائم وعلى قول والدتها: "كل من يعرفها كان يحبها بسبب ابتسامتها الدائمة ومرحها، كانت كثيرة المزاح ودائما مرحة".
وتضيف والدتها والدموع قد غلبت كلماتها: "كانت سوسن مصدر فرح لكل العائلة، وكل طلباتها مجابة ونوفر لها أكثر مما تطلب، لا أحد من أشقائها وأعمامها الذين يسكنون بالقرب منا يرفض لها طلبا".
وسوسن هي واحدة من ستة أبناء للسيدة أم داوود، "كانت أصغرهم وأكثرهم إشراقا ومرحا في العائلة كلها وليس فقط لدى عائلتها الصغيرة، وكانت الأكثر دلالا"، بحسب والدتها، التي تقول ان ابنتها قد درست بجد هذا العام وكانت تريد تحقيق حلمها.
حلمها بأن تصبح "ضابطا" تخدم أبناء شعبها وتوفر لهم الأمن، أنهته بضع رصاصات لأن المحتل قرر مصادرة حلمها بالوصول لمقاعد الدراسة الجامعية لا بل حقها بالحياة وخنق أنفاسها وضحكاتها، تاركاً حسرة الألم والفراق يلوع قلب أهلها.
أما والدها فلم يسعفه الوجع للحديث إلا أن والدتها قد أخبرتنا بأن ضابط في جيش الاحتلال قد اعتذر لزوجها عن قتل ابنته، ليرد عليه سائلاً: "وماذا ينفعني اعتذارك؟!"، وماذا يفيد الاعتذار بعد أن ترك الاحتلال في قلب عائلتها حرقة لا تمسحها الأيام.
حرقة لا تزال تدمي عشرات العائلات ممن فقدوا أبناءهم على حواجز الاحتلال، لمجرد شكوك او شبهة انتابت جندي الاحتلال فكان الرصاص كفيلا برسم مصير شاب او فتاة وإنهاء حياة بأكملها.
وبعد أربعة أيام على استشهاد "سوسن"، وعشية انطلاق امتحانات الثانوية العامة، شيعت عائلة الشهيدة سوسن منصور جثمان ابنتها الجمعة الماضي، لتُغيب سوسن للأبد، ومعها ابتسامتها والفرحة التي تنتظرها عائلتها.
وفي صباح اليوم التالي توافد الى منزل الشهيدة سوسن زميلاتها اللواتي افتقدنها في أول امتحان في الثانوية العامة والذي من المفترض أن يخرجن معاً للامتحان بعد أن تقاسمن أوقاتهن بالدراسة سوياً.
وأُعلن في "بدو" الحداد العام وأغلقت المحلات التجارية في القرية، ليقام لـ"الفراشة سوسن" تشييع مهيب، حيث أدت الجموع صلاة الجنازة على جثمانها في مسجد عبدالله بن جابر وسط القرية، ثم تمت مواراة جثمانها الثرى في مقبرة القرية.