اجتاز الرجلان باب المطعم بخطوات واثقة، ثم انتحيا جانبا لتناول بعض الأطعمة. لم يكن في دخولهما ما يبعث على الشك، إذ كان مظهرهما يدل على أنهما من رجال الأعمال الذين يفدون إلى المركز التجاري ثم يضطرهم التجوال إلى الدخول إلى مطعم أو مقهى لنيل قسط من الراحة. بعد بضعة دقائق والكل منشغل بطعامه، نهض الرجلان في هدوء، واستخرج كل منهما سلاحا وأمطرا الجالسين الذين أذهلتهم المفاجأة بوابل من الرصاص، الأمر الذي أدى إلى قتل أربعة أشخاص وإصابة تسعة، بعضهم حالتهم حرجة.
حدث ذلك مساء الأربعاء، الماضي في تل أبيب فيما سمى «عملية رمضان»، التي لم تكن في حسبان أي أحد، بل استبعد الجميع حدوثها، بعدما تواترت التقارير التي أكدت أن انتفاضة الأقصى تراجعت خلال الأشهر الستة الأخيرة. فبعد أن كانت عملية في شهر أكتوبر أصبح عددها ثلاث عمليات فقط في شهر مايو الماضي.
لم تكن هذه هي المفاجأة الوحيدة. إذ صدمت الأجهزة الإسرائيلية التي وجدت أن الرجلين اللذين دخلا إلى المطعم ولم يثيرا أي شك هما الفلسطينيان محمد وابن عمه خالد مخامرة من بلدة يطا بقضاء الخليل. السؤال الكبير الذي شغل الأجهزة وعبرت عنه الصحف الإسرائيلية هو كيف وصل الشابان من بلدتهما إلى تل أبيب رغم وجود حواجز التدقيق المنتشرة على طول الطريق إلى العاصمة، ولماذا وكيف فشلت الاستخبارات الإسرائيلية وتلك التابعة لسلطة رام الله في اكتشاف أمرهما.
سؤال آخر مهم طرح أثناء التحقيق يتعلق بتحري علاقة الشابين بمنظمات المقاومة الفلسطينية. السؤال الثالث استدعاه السلاح الذي استخدماه في العملية. إذ تبين أنه مصنوع محليا، الأمر الذي سلط الضوء على التطور الحاصل في قدرات الشباب الفلسطيني الذي استخدم الحجارة حينا والسكاكين في طور لاحق، وها هم نجحوا في تصنيع البنادق بما يستصحبه ذلك من احتمالات للتطوير الذي لا تعرف حدوده في المستقبل.
اكتشف المحققون الإسرائيليون أن الشابين اللذين في العشرينيات من عمرهما لا علاقة لهما بالمنظمات الفلسطينية، ولا سجل لهما لدى الأجهزة الأمنية. وإنما هما من جيل ما بعد أوسلو الغاضب الذي ورث كراهية المحتل. (أحدهما طالب متفوق بكلية الهندسة في جامعة «مؤتة» الأردنية) وهو ما ضاعف من حيرة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي اعتادت على التعامل مع التنظيمات، ولم تعرف كيف تلاحق غضب بحر البشر الذي لا شطآن له.
إضافة إلى التحقيق الذي أجري في فشل الاحتياطات الأمنية فإن ملف الشباب الفلسطيني غير المنتمي إلى أي بنية تنظيمية ظل مؤرقا للجميع. وهؤلاء تطلق عليهم الصحف الإسرائيلية وصف «الذئاب المنفردة»، وهم المقاومون الرافضون للاحتلال والكارهون لممارسات الحصار والقمع والتنكيل والإذلال التي يفرضها، إضافة إلى أنهم أبناء أسر وعائلات كل واحدة منها قدمت شهداء ولها ثأراتها التي تتحين الفرصة للرد وتصفية الحساب.
"عملية رمضان" جددت الحديث عن ظاهرة الذئاب المنفردة. قليلون من الكتاب الإسرائيليين اعترفوا بأن الظلم والذل يكمنان وراء تنامي الظاهرة. وهؤلاء دعوا إلى ضرورة التوصل إلى حل سياسي يخفف الظلم والمعاناة عن الفلسطينيين.
أما الأغلبية فإنهم رأوا أنه طالما تعذر وقف عملياتهم فالحل هو معاقبة البيئة الحاضنة لهم لردعهم وإقناعهم بأن عمليات الشباب تلحق بهم أضرارا فادحة في حياتهم اليومية وقدراتهم المعيشية. وهو ما لجأت إليه الحكومة الإسرائيلية التي سارعت إلى إلغاء تصاريح العمل والزيارة للفلسطينيين إضافة إلى تشديد إجراءات الحصار والتنكيل بسكان قضاء الخليل الذي قدم منه الشابان. وفي هذه الحالة فإن هدم بيوت المقاومين بات عرفا متبعا بعد كل عملية.
عملية رمضان التي قام بها اثنان من الشبان الفلسطينيين التي عدت الأخطر والأكبر منذ ستة أشهر، توجه رسالتين مهمتين، إحداهما للداخل والثانية لكل من يهمه الأمر في الخارج، في الأولى تأكيد على أن جذوة المقاومة في فلسطين أقوى وأعمق مما يتصور الكثيرون. وأنه إذا ساومت الأنظمة أو تنازلت وإذا تراجع دور المنظمات وتعقدت حساباتها، فإن احتياطي الذئاب المنفردة يمثل رصيدا للمقاومة لا ينفد.
وإذا لم يستطع هؤلاء هزيمة العدو المحتل، فلاشك في أنهم قادرون على إزعاجه، وتوجيه الضربات الموجعة له بين الحين والآخر. ولأن بحر البشر الفلسطيني هو مصدر تلك الذئاب فإن قدرته على الإزعاج تظل أكبر من قدرة الاحتلال على الاحتمال في المدى البعيد.
رسالة الخارج تنبه إلى أن شيوع الظلم والقهر يحول البشر إلى قنابل موقوتة جاهزة للانفجار في أي وقت. وفي هذه الحالة فإن الثأر لا يكون بحاجة إلى مؤامرات تحاك ولا تنظيمات إرهابية تخطط وتدبر، لأن كل واحد من المقهورين سيكون لديه دافعه الخاص للثأر، ولن يكون بحاجة إلى تحريض أو تدريب أو تمويل، وكما أن القهر الإسرائيلي هو الذي أطلق «الذئاب المنفردة»، فكل قهر آخر مؤهل لأن يؤدي نفس المهمة. وفي هذه الحالة لن تكون الذئاب هي المشكلة الحقيقية لأن معامل تفريخها تظل بيت الداء.