يبدو صادما أن يتمكن نظام احتلال من ترؤس اللجنة القانونية في الأمم المتحدة، وهو ما حدث تماما في خطوة كاشفة لما يجري في بعض أروقة المجتمع الدولي، ولا جديد في أن أبرز ديمقراطيات العالم هي التي دفعت بترشيح الجانب الإسرائيلي المنغمس في انتهاكاته للقانون الدولي، كي يتبوأ المنصب القانوني الأبرز.
والأصل أن يكون الاختيار في مواقع كهذه أشبه بالتناوب بين الدول الأعضاء، مع تقليد المصادقة بالإجماع على التسمية المقترحة. لكن الاعتراضات العربية والإسلامية على تسمية الجانب الإسرائيلي دفع على غير العادة بتصويت متعدد الاختيارات خرج بفارق مخجل للغاية بين نظام الاحتلال ومملكة السويد.
ولم تكن الفرصة قد تهيأت للسويد أو لغيرها لكسب أصوات مؤثرة، لأن الاقتراع لم يكن مبرمجا على سفرائها ابتداء، ولم يكن من المتوقع لأي دولة أخرى غير الجانب الإسرائيلي أن تفوز بالمنصب. ولذا فقد اعتمدت المحاولة الاعتراضية على السعي لتشتيت الأصوات بين عدة دول، وهو ما منح السويد عشرة أصوات، واليونان وإيطاليا أربعة أصوات لكل منهما، مع تحفظات وأصوات لاغية لم تنجح في العرقلة. ورغم افتقاره إلى الإجماع فقد حصد السفير الإسرائيلي 109 أصوات من أصل 193 صوتا (دولة) بما حسم الجولة لصالحه مباشرة، بعد جدل سبق الاقتراع أغضب الولايات المتحدة.
ماذا عن أوروبا؟
مع المعضلة الجوهرية في تسمية السفير الإسرائيلي ابتداء؛ أكدت التجربة أن نظام الاحتلال ما زال يحظى بإسناد دبلوماسي أوروبي واسع نسبيا، علاوة على انحياز تقليدي من دول غربية كبرى كالولايات المتحدة وكندا وأستراليا. ولا جديد تحت الشمس، فهذا ما تكشف عنه جولات الاصطفاف والتصويت المتعددة في هيئات ومنظمات واتحادات دولية، بدءا من مجلس الأمن، ومرورا بمجلس حقوق الإنسان، وانتهاء بالاتحاد الدولي لكرة القدم الذي أدى الضغط الأوروبي في أروقته، مطلع صيف 2015، إلى تعطيل محاولة جادة لتعليق عضوية اتحاد الكرة الإسرائيلي فيه.
المغزى السياسي من هذا المسار، أن الجانب الإسرائيلي عندما يحظى بإسناد كهذا، لا يبدو واقعيا انتظار أي ضغط سياسي جاد عليه من حلفائه أو شركائه، أو أي دعم ملموس منهم للحقوق الفلسطينية والمواقف العربية حتى في مبادرات ومشروعات قرار عربية تتعلق بإنعاش عملية التسوية والمفاوضات.
وقد جاء اختيار السفير الإسرائيلي داني دنون من خلال عضوية نظام الاحتلال في مجموعة أوروبا الغربية، بعد تملصه من مجموعة آسيا والمحيط الهادي التي لم تمنحه حتى حينه فرصة اختياره لمناصب تُذكر. ولا جديد بالتالي في الاستنتاج بأن أوروبا تبقى، رغم تردد بعض دولها، ظهيرا دبلوماسيا حاسما للجانب الإسرائيلي في جولات التصويت الدولية، علاوة على الإسناد الأميركي المعتاد. وهو ما يعني أن بيانات الخارجيات الأوروبية بخصوص فلسطين، والتي تتضمن انتقادات لبعض سياسات الاحتلال الإسرائيلي، لا تكاد تجد سبيلها إلى الترجمة العملية في ساعة الحقيقة.
صحيح أن تنصيب سفير إسرائيلي في موقع كهذا لا يعني تحولا في واقع السياسة الدولية؛ إلا أن تطور الترشيح والتصويت بحد ذاته أذهل بعض المعلقين في العالم العربي بشكل خاص، ربما لأن جولات التصفيق لفلسطين في بعض الهيئات الدولية خلال الأعوام الأخيرة بالتلازم مع تصعيد درجة عضويتها، منحت لدى بعضهم انطباعات متسرعة بأنها قضمت من فرص الجانب الإسرائيلي في الحضور الدولي.
لكن السلوك التصويتي في الهيئات الدولية يبقى في العادة أكثر أمانة في التعبير عن حقيقة المواقف ومدى الالتزام بالبلاغات اللفظية والشعارات المرفوعة، وهي حقيقة تكشف عن معضلة تنتاب المواقف الأوروبية تحديدا نحو قضية فلسطين التي تتردد بين الانحياز والتكلؤ والتشتت؛ ففي وفرة من جولات التصويت السابقة انكشف غياب الإجماع الأوروبي على إنصاف قضية فلسطين، وتبعثرت الأصوات الأوروبية أو مالت للانحياز الواضح للجانب الإسرائيلي.
جرى شيء من ذلك مثلا، قبل سنة ونصف السنة من واقعة اللجنة القانونية، لدى التصويت في مجلس الأمن على مشروع قرار عربي يدعو إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي خلال سنتين. ورغم أن ذلك المشروع الذي تم التداول بشأنه في الساعات الأخيرة من سنة 2014 جاء توفيقيا في صياغاته إلى حد كبير، وكان من شأنه إنعاش المفاوضات مع وضع سقف زمني لها؛ إلا أن الدول الأوروبية لم تتوحد في دعمه.
واتضح أن أوروبا التي تؤكد دعمها لإيجاد حل لقضية فلسطين أظهرت مجددا عدم اتفاقها على هذا الحل، أو أنها لا تريده الآن على الأقل. وصوتت فرنسا ولوكسمبورغ وقتها مع القرار، وأعاقت بريطانيا وليتوانيا تمريره برفضهما الموافقة عليه والامتناع عن التصويت. وكانت تلك التجربة نموذجا اعتياديا من السلوك التصويتي الأوروبي قبل ذلك وبعده، يعززه انحياز مضمون من الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين لنظام الاحتلال الإسرائيلي في جولات الاقتراع.لا شك أن تمرير رئاسة السفير الإسرائيلي للجنة القانونية (الاثنين 13يونيو/ حزيران 2016) يرسم تساؤلات مزعجة عن مدى يقظة الدبلوماسية الفلسطينية، وفعالية التمثيل العربي والإسلامي وتماسكه في الأروقة الدولية.. فما جرى لم يكن ليتم على هذا النحو لو أن المجموعتين العربية والإسلامية كانتا فاعلتين، أو أن التكتلات المتضامنة تقليديا في العمل الدولي، كعدم الانحياز، بقيت على تماسكها المعهود سابقا.
مع ذلك؛ فقد يرى بعضهم مكسبا رمزيا طفيفا للموقف الفلسطيني فيما جرى، بحجب فرصة الإجماع عن اختيار المندوب الإسرائيلي، خاصة مع الموافقة بالإجماع على رئاسة اللجان الخمسة الأخرى وهي "نزع السلاح" و"القضايا الاقتصادية والمالية" و"حقوق الإنسان" و"تصفية الاستعمار" و"ميزانية الأمم المتحدة".
لكن "مكسبا" كهذا إن وقع التسليم به يبقى رمزيا للغاية ومحدود الأثر، إذا قورن بضعف الأداء المناهض للترشيح الإسرائيلي وتضعضع قدرته على الحشد. وبهذا بدت الخطوة الاعتراضية قفزة في الهواء أو محاولة يائسة في وقت ضائع، وأظهرت عجزا في التعبئة الدبلوماسية وترهلا في الإسناد العربي والإسلامي لقضية فلسطين، والذي لم يعد مضمونا بالكامل في جولات الاقتراع السري تحديدا.
امتحان الدبلوماسية الفلسطينية
شكلت واقعة الصعود الإسرائيلي إلى رئاسة اللجنة القانونية اختبارا داهما للدبلوماسية الفلسطينية، التي أعلنت بعد الحدث الصادم أنها سعت في تحركات كابحة للخطوة رغم ضيق الوقت. ويثير ذلك تساؤلات عن مبرر غياب الحس الاستشرافي الذي يتيح حشد مواقف أوسع في مواجهة أي تمدد دبلوماسي إسرائيلي مرتقب.
أما بالنسبة لنظام الاحتلال فإن رئاسة لجنة دولية كهذه تعد مكسبا محققا له في تطبيع حضوره في مستويات العمل الدولي، بإسناد مباشر من حلفائه. وما كان للجانب الإسرائيلي أن يحلم بهذا الصعود قبل عقود خلت، وتتجلى المفارقة في أن فرصته هذه إنما جاءت فقط من خلال فكاكه من إقليمه والتحاقه بمجموعة أوروبا الغربية، بعد أن أدرك انتفاء فرصه من خلال مجموعة آسيا والمحيط الهادي التي كان منضويا بها.
وبغض النظر عن بلاغات الاستياء التي أعلنها ممثل اليمن بصفته رئيس المجموعة العربية، وممثل الكويت بصفته رئيس المجموعة الإسلامية؛ فإن السلوك التصويتي للدول العربية والإسلامية يتطلب فحصا دقيقا، خاصة مع إشارات متضافرة أفادت بتصويت بعضها لصالح الرئاسة الإسرائيلية، ومنها أربع دول عربية.
وفي النهاية؛ أصبح بوسع أنظمة الاحتلال والأبارتهايد (الفصل العنصري) أن تتربع على رأس التدقيق القانوني في المجتمع الدولي الذي قد يُطلب منه يوما النظر في ملفات قانونية تتعلق بأنظمة الاحتلال ذاتها. ويكاد ذلك أن يكافئ تسمية السفير الإسرائيلي لرئاسة إحدى اللجان الخمسة المتبقية؛ كلجنة حقوق الإنسان التي تنتهكها دولته بصفة متواصلة، أو ربما لجنة "تصفية الاستعمار" التي توارثت ملفات تتعلق بفلسطين ذاتها.
وبعد التجاوز الأخلاقي والرمزي الذي جرى مع اللجنة القانونية؛ لا يمكن انتظار ما هو أفضل دون استنفار جوهري للدبلوماسية الدولية الداعمة لفلسطين، ولن ينهض ذلك بدون منطق فلسطيني جديد وإستراتيجيات تحرك فعالة، وبالطبع إرادة سياسية فلسطينية جادة قبل أي شيء.