جسد هارم وروح يانعة

في دار المسنين.. خصلات بيضاء أرهقتها الوحدة

IMG_2336
IMG_2336

الرسالة نت- محمد أبو زايدة

تجلس وحيدةً لا تحدّث أحدًا من حولها سوى آيات القرآن الكريم، والتي ترتلها كلّما أنهت ألفي تسبيحة، وإن اقترب أحدٌ منها تحاول مداراة وجهها؛ لكنّ طُرفة تلقيها على مسامعهم تجعلها أكثر الناس انتباهًا لك.

الحاجّة فوزيّة؛ والتي تبسّمت لـ "الرسالة نت" أثناء استضافتها من خلال حديثٍ ألقته على مسامعنا؛ تعود جذوره إلى زواجها من أحد أقربائها، وعيشها معه حياة هنيئة حتّى توفاه الله دون أن يُرزقا بأولاد، فبقيت وحيدة في بيتها، حتى اشتدّ عليها المرض، فنصحوها بالذهاب إلى بيت المسنين.

تقول فوزية قويدر (87 عامًا): "ترمّلت وأصابني المرض والكبر؛ فوجدت نفسي في جمعية الوفاء الخيرية"، وعندما دار حديثٌ معها لما يقارب الساعة؛ كانت تحدّثنا بروحِ فتاةٍ لم تتجاوز العشرين من عمرها، والخجل ينبعث منها، وإن ظهر شعرها من تحت منديلها، تسرع لتغطّيه أمامنا.

حدثتنا فوزية عن بلاد أجدادها -يافا-، وكيف كانت تقضي وقتها في بساتينها، ورائحة الوطن الذي هجّرت منه قسرًا عام 1948، وزواجها الذي تكلل بسعادةٍ قبل أن تنتهي حكايته بوفاة زوجها.

تتابع فوزية: "أكثر مكان وجدت نفسي يمكنني التأقلم فيه، ويرعاني بلا مقابل هو هذا المركز، ولكنني أشعر بوحدةٍ داخلية مع كل موسمٍ رمضاني".

وتصوم الحاجة فوزية شهر رمضان؛ كـ"صوم العصافير"، حيث لا تتمكّن من الاستمرار فيه لأذان المغرب نتيجة وضعها الصحّي، لكنّها تجاهد نفسها.

وفي لفتةٍ كنّا شهداء عليها، أثناء تقديم وجبة طعامٍ لها من خارج المركز، رفضتها وعندما سألناها عن السبب أجابت بكل خجل: "لم أتعود أن أتناول طعاما من أحد، ونفسي عزيزة عليّ، وحتى إن قدّم لي وردة سأرفضها إن كانت بطابع المنّ والتصدّق علينا".

وفي الغرفة المجاورة لها؛ ترقد الحاجّة رحمة مُراد (94عامًا)، والتي زارتها "الرسالة" قبل عامين من كتابة التقرير، وكانت بكامل صحّتها، إلّا أنّها وقعت أثناء سيرها بالمركز؛ ما سبب لها كسرًا في الحوض أجبرها أن تكون "قعيدة الفراش".

رُغم ذلك؛ لم تختفِ الابتسامة على شفتي رحمة، وإنّما استقبلتنا بثلاث كلماتٍ باللغة الإنجليزية (Hello، Bonjour، يا مرحبًا يا مرحبًا)، وكانت تعابير وجهها والسعادة التي غمرتها كفيلة لأن تجبرك على الجلوس برفقتها مدة لا تحسب لها من شدّة انسجامك مع أحاديثها.

تتحدّث رحمة ثلاث لغات، وهن (العربية، والفرنسية، والانجليزية)، وتحاول أن تثبت نفسها كلّما سنحت لها الفرصة أمام الصحفيين؛ لتخاطبهم بهذه اللغات، ثم تتبع كلّ جملة ضحكة خفيفة؛ تشدّك لأن تخاطبها أكثر.

ولا تختلف رحمة عن الحاجّة فوزية في وجودها داخل مركز الوفاء لرعاية المسنين، فقد كان سبب مكوثها فيه منذ أكثر من خمسة أعوام؛ هو وفاة زوجها، وعدم إنجابها أيًا من الأبناء.

وعن أمنيتها في الحياة، ألقتها على مسامعنا قائلة: "أتمنّى أن يعمّ السلام في الوطن العربي، وأن تحرر فلسطين، وألا يصيب شبابها أي ضيم".

من ثلاث إلى أربع حالاتٍ داخل كل غرفة بمركز الوفاء الواقع في مدينة الزهراء وسط قطاع غزة، ومن فيه بلا أبناء، أو معيل، أو مأوى، وكلّما جنّ الليل يتسامرون ويشكون همومهم، ويروون حكاياتهم التي يعود بعضها لأيام البلاد، أو عن أمانيهم للشباب ألا يعيشوا حياة مشابهة لهم.

في حين، أعلن مركز الوفاء عن إطلاق حملته الخيرية لدعم نزلائه من المسنين والمسنات منذ بداية شهر رمضان لعام 2016، وفتح باب استقبال التبرعات طيلة الشهر.

وقال المدير التنفيذي لمركز الوفاء المهندس بسمان العشي: "إن الحملة تعبر عن روح التضامن الاجتماعي خاصة مع كبار السن الذين فقدوا المأوى والمعيل بعد سنوات من العطاء، وأتت الحملة خلال الشهر الفضيل حيث يتسابق الجميع لفعل الخير بالسرور الذي تدخله على قلب مسلم".

وأكد العشي أن التبرع للحملة هو أقل واجب يقدمه أحدنا عرفانا لكبار السن خصوصا أنهم بلا مأوى ولا معيل وهم مصرف من مصارف الزكاة.

وأشار إلى أنّ المركز يأوي 35 مسنا ومسنة ليس لهم مأوى ولا معيل، يُقدّم خدماته المجانية لهم على مدار الساعة دون مقابل.

البث المباشر