طوال بث الحلقات الخمس الأولى من مسلسل الفدائي بجزئه الثاني، وأنا أمازح إدارة قناة الأقصى الفضائية قائلًا لهم: "حتى اللحظة، لا أستطيع تصديق أن المسلسل من إنتاجكم"، ليس انتقاصًا من شأن أول قناة للمقاومة الفلسطينية، بقدر ما هو انبهار واندهاش سلب عقلي وعيناي، بالجهد الذي أقيم على ظهر أبنائها، والذين تقترب خبرتهم في العمل الدرامي من الدرجة الصفرية، بإمكانات محدودة جدًا. أبناؤها الذين عاشوا في مخيمات اللجوء، ويتقاسمون رغيف الخبز مع مليوني إنسان يسكنون في سجن مفتوح السقف، اسمه قطاع غزة، منذ عقد من الزمن.
فغزة التي أصبحت غابة من الإسمنت، بسبب اكتظاظها بالسكان، نجح أبطال الفدائي من القائمين عليه، في خلق مواقع تصوير تجعلك صديقي القارئ، معايشًا لأجواء الضفة، بجبالها، وأراضيها، وفن عمارة منازلها القديمة، حتى أصبحت غزة كالخليل ونابلس.
لينجح مسلسل الفدائي في تقديم صورة مفصلةٍ شديدة الوضوح للمشاهد العربي، حول طبيعة صراعنا مع الاحتلال، تجاوزت تعريف الصراع النمطي المزروع في عقول بعض العرب، أن ما يدور هنا هو اقتتال على الأرض، تلاه رشق بالحجارة وارتقاء شهداء، توج باتفاقية سلام، يعكر صفوها من حين لآخر "الكارهون للسلام"، حتى وصل نبذ جذور الحكاية التي بدأت مع مؤتمر "بازل" عام 1897، إلى إنتاج مسلسلات تجعل من الصهيوني صديقًا، يمكن أن يعيش جنبًا إلى جنب في حارة هنا أو هناك، في انحطاط غير مسبوق في كيّ وعي المتلقي العربي.
سبب كتابة هذه السطور، لم يكن للنقد الفني للمسلسل، لكن إن سُئلتُ عنه، فجوابي سيكون الرضا، ليس ابتداءً بالاعتدال المحمود في استخدام الخدع البصرية (CGI)، في مشاهد عمليات إطلاق النار، وتصوير الدبابات، وحتى اللوحات التعريفية للمباني الإسرائيلية، ولا انتهاء بالحبكة وذروتها في الصراع الذي هو لبُّ المسلسل في الأساس، ولا حتى الحوار، الذي قال لي البعض، إنه مبالغ فيه قليلاً، متناسين أنهم يشاهدون مسلسلًا دراميًا، لا فيلما وثائقيًا، فمن الطبيعي أن يكون في الحوار "رشة من الدراما".
سبب الاعجاب بالمسلسل، كان في عبقرية الرسائل التي حملها بين ثنايا حلقاته، رسائل كثيرة لا تتسع لمقال واحد، وإن فهمها من تلقاها، فإنها قد تنقل العمل المقاوم في فلسطين بشكل عام، والضفة بشكل خاص إلى مستوىً جديدٍ تمامًا.
أولى تلك الرسائل، والتي كانت أهمها وأكثرها تكرارًا، هو حرب الأدمغة الضروس بين الفلسطيني و"الشاباك"، فالمسلسل نجح في تفنيد الجملة الساذجة التي كان يرددها بعض أبناء شعبنا: "أن الأمن الإسرائيلي يعرف كل شاردة وواردة"، ليتبين لنا بالدليل أن حتى سادس أقوى جيش في العالم لا يستخدم أجهزة تنصت خارقة، كتلك التي يستعملها "جيمس بوند"، ولا آذانًا مسلطة على جدراننا، لكنها الحنكة في توظيف أدوات الاستخبارات الإسرائيلية، التي تعتمد بنسبة 100% على العنصر البشري "العملاء".
ولم تكن صورة العميل في المسلسل مشابهة لما تعودت عليه ذاكرتنا البصرية في الأفلام، من رجل يلبس قبعة، يتصفح صحيفة مثقوبة، يتتبع خطوات البطل حتى النهاية، بل كان العميل في "الفدائي 2" أحيانًا أسيرًا تقيًا خاشعًا ورعًا مزروعًا بين الأسرى، أو حتى رجلًا محترمًا جاء بصورة المحب لوطنه، كشخصية "جميل أبو الحكم" المحامي، الذي يتبين لنا أنه ضابط داهية في جهاز "الشاباك".
فكم من عملية فدائية أجهضت، بسبب عدم الحيطة الأمنية، وكم من عملية أحبطت، ظل أبطالها محتارين بعد اعتقالهم، مصدومين يدور في عقولهم سؤال واحد، وواحد فقط: "كيف عرف الأمن الإسرائيلي بمخططنا؟"
هذا الاحتراز الأمني في المسلسل يقود إلى نتيجة بالغة في الأهمية، كانت ثاني رسائله العبقرية، وهي أن العمل الفدائي، لا يشترط أن يكون ضمن مجموعة أو تنظيم، بل يمكن لأي فلسطيني مهما بلغ من درجة البساطة، أن يكون "ذئبًا منفردًا" ينهش في جسد الاحتلال ومستوطنيه، ومصطلح "الذئاب المنفردة" هو التعريف الاسرائيلي الجديد لكل من نفذ عملية في الانتفاضة الثالثة، ولا يتبع لأي تنظيم.
أما ثالث الرسائل، فكانت تخبرنا، أن العمل المقاوم، لا يعرف سنًا محددة، سواء كنت شابًا في مقتبل العمر أم مسنًا كشخصية "أبو نضال" الذي أخذ بالأسباب وعمل بالرسالتين السابقتين، فقاوم وأثخن الجراح في العدو، لأنه ببساطة، عمل بصمت، فنجح، بل إن "قناص الخليل" مثال حي على ذلك، حتى وإن ادعى الاحتلال اعتقاله.
وعن الرسالة الرابعة، فقد تمكنت الشخصيات التي مثلت أدوار المستوطنين من تعريفنا على صورة أقرب داخل المجتمع "الاسرائيلي"، فهو مجتمع هش سهل الكسر، تعصف به الشقاقات والعنصرية الطبقية والعرقية، وصدق فيهم قول المولى عز وجل: "بأسهم بينهم شديد، تحسبُهم جميعا وقلوبُهم شتى" ليس هذا فحسب، بل إن المسلسل جعلنا نعي أن تمسك الصهاينة بأرض فلسطين، لم يكن يومًا من أجل "أرض الميعاد" بل كان لأنها أرضٌ "تدر لبنًا وعسلًا" ومشروعًا استثماريًا ناجحًا، وما سبب وحدتهم الظاهرية هذه، إلا للحفاظ على مصلحة ذلك المشروع الاستثماري.
فمن يعي تلك الرسائل؟ ومن ذا الذي يفهمها جيدًا؟ ومتى يعرف من لا يعرف، أن الصهيوني لا يمكن أن يعيش معنا؟ فإما أن ينهي وجودي أو أنهي أنا وجوده على أرضي، أترضى لسارق منزلك أن يعيش بجانبك فيه؟ فما بالك بمن سرق منا الأرض، وسرق أحلامنا، وسرق كل جميل في حياتنا؟