تمهد الكاتبة سفيتلانا أليكسيفيتش (1948) الفائزة بجائزة نوبل عام 2015، لكتابها "صلاة تشرنوبل" بتثبيت بعض الوثائق التاريخية عن انفجار محطة تشرنوبل النووية في أوكرانيا، تلك الحادثة التي تعتبر أضخم كارثة تكنولوجية في القرن العشرين، وقعت يوم 26 أبريل/نيسان 1986، وشملت أثارها الكارثية أكثر من مليوني مواطن، وأنتجت لاحقا مزيدا من المصابين بالأمراض السرطانية والتخلف العقلي والاضطرابات النفسية العصبية والتغيرات الجينية المفاجئة.
تعتمد سفيتلانا في كتابها صيغة المونولوغ، وتسند الحكاية إلى الشخصيات التي تقارب المأساة من وجهة نظرها، ومن موقعها السابق ورؤيتها الراهنة لها، وكيف أثرت في حياتها، وأصبح ما بعد الانفجار يختلف عما قبله اختلافا جذريا. تؤكد على واجب التذكّر في مواجهة سلطة النسيان، وتؤرخ الشهادات لتكون وثائق للمستقبل، وتكون تلك الشهادات بمثابة صلوات على أرواح ضحايا الكارثة وتعاويذ لحماية الأجيال الجديدة.
تذكر سفيتلانا أنها استغرقت وقتا طويلا في كتابة عملها، التقت الموظفين السابقين في المحطة وتحدثت إليهم، التقت العلماء والأطباء والجنود والنازحين والوافدين، التقت كل من شكل تشرنوبل بالنسبة له المحتوى الأساسي لعالمه، من سمم تشرنوبل ما في داخله ومحيطه، وليس الأرض والماء فحسب. تقول إن جميعهم تحدثوا، وبحثوا عن أجوبة، تعجلوا مخافة أن يداهمهم الوقت، وإنها لم تكن تعرف أن ثمن شهاداتهم هو الحياة.
تتحدث عن أساليب السلطة السوفياتية في تضليل الناس، وإيهامهم أن النظام قوي لدرجة لا تستطيع أية كارثة أن تؤثر فيه، تقول إن البلاد لم تكن مستعدة للكارثة النووية، وإنهم كانوا أبناء زمنهم، ووثقوا بما علموهم إياه بأن المحطات النووية السوفياتية هي أكثر أماناً في العالم، ويمكن بناؤها في الساحة الحمراء.
تكتب سفيتلانا عما تسميه بالتاريخ المُغْفل، تقول إنها شاهدة على تشرنوبل، التي تصفها بكارثة الزمن، وتسأل نفسها عن ماذا تشهد، على الماضي أم المستقبل؟ تقول إنها تنظر إلى تشرنوبل كبداية للتاريخ الجديد، وتعتقد أنه ليس معرفة فحسب، بل مقدمة المعرفة، لأن الإنسان دخل في جدال مع التصورات القديمة عن نفسه وعن العالم. وتلفت إلى أنها تكتب وتجمع الأحاسيس اليومية والأفكار والكلمات، وتحاول الارتقاء لتكون روحا.
تؤكد أن الحديث عن تشرنوبل استدارةٌ إلى أحزان الآخرين وحياتهم، وإفساح المجال لهم ليرفعوا أصواتهم بالاحتجاج، وتسجيل شهاداتهم للتاريخ وللمستقبل. وتقول إن مواطني روسيا البيضاء اليوم صناديق سود حية، تسجل المعلومات للمستقبل، وللجميع. وتعتبر أن الفترة ما بين حصول الكارثة وبداية التحدث عنها كانت فترة توقف مؤقت، لحظة بكَمٍ علقت في ذاكرة الجميع.
تتأسف لأحوال أولئك الذين فقدوا حياتهم في تلك الكارثة، وتتساءل عن إخفاء السلطة السوفياتية لكثير من المعلومات، ودأبها على التضليل، ودفع الناس إلى نوع من الانتحار الجماعي، وأن أولئك الرجال الذين ساهموا بإخماد الحرائق بداية أنقذوا الحياة في المنطقة بأسرها. وتقول بأسى إن لأبطال تشرنوبل نصباً تذكارياً واحداً، هو التابوت المصنوع يدوياً، الذي دفنوا فيه النار النووية، إنه أهرام القرن العشرين.
تشدد أليكسيفيتش على السؤال عن المذنبين، لا أولئك الذين تمت محاكمتهم محاكمة صورية، ليتم التعتيم على الكارثة، والعمل بطريقة دعائية بائسة لتحويلها انتصاراً للقوات الحربية السوفياتية في فترة الحرب الباردة. وتصف مفارقات من تغيير تفكير الناس. يقول أحد الشهود إنهم أصبحوا مادة للدراسات العلمية، ومختبراً دولياً، يأتي إليهم العلماء من مختلف الدول يجرون أبحاثهم لأنهم يخافون المستقبل. يؤكد لها آخر أن تشرنوبل سرّع من انحلال الاتحاد السوفياتي وفجر الإمبراطورية.
تختم الكاتبة بإشارة إلى مكتب سياحي في كيف يعلن عن تنظيم رحلات سياحية إلى تشرنوبل، حيث يبدأ خط سير الرحلة من مدينة بريبيات الميتة، وتشير كذلك بمرارة إلى أن الدعاية السياحية تقول إن جوهر الرحلة، "متعتها"، يكمن في مشاهدة "المخبأ"، أو التابوت. وتؤكد أن ذلك ليس هذياناً، وأن السياحة النووية مزدهرة، تلك السياحة التي تكون نوعاً من زيارة الشواهد بطريقة غريبة.
المصدر: الجزيرة نت