خمس ساعات أربكت العالم وكشفت المواقف الحقيقية للدول التي تخلت عن الدبلوماسية وتجرد إعلامها من المهنية ليكشف بقوة عن توجهاته، ما بين معارض ومؤيد لمحاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت في تركيا ليلة الخامس عشر من الشهر الجاري.
المواقف التي أعلنت فيما بعد عبر البيانات والتصريحات خرج من بين سطورها الإحباط رغم أنها كانت منمقة وتحتفي بدعم الديمقراطية، لكنها لم تنجح في إخفاء خيبة الفشل، وكان الصمت الذي ساد الساعات الأولى من أحداث تركيا أوضح وأجلى من كل التصريحات، فقد كانت كل الأطراف الداعمة والمؤيدة للإطاحة بحكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه عن السلطة متلهفة لنجاح الانقلاب حتى تعلن مواقفها صراحة.
وما تحفظ عليه السياسيين والشخصيات الرسمية أفصحت عنه بقوة وسائل إعلام وصحافيين تجردوا من المهنية وأطلقوا العنان لأمنياتهم وروجوا لنجاح الانقلاب ونهاية أردوغان قبل أن تتضح الصورة.
وكانت محاولة الانقلاب التركي درس حقيقي لدور الإعلام في تغيير مجرى الأحداث والتأثير على أطراف النزاع، فقد دخلت مكالمة السكايبي التي أجراها أردوغان مع إحدى القنوات التركية بعد ساعة من تحركات الجيش التاريخ، وكانت عنصرا أساسيا في تحريك الشعب التركي الذي استجاب لرئيسه ونزل للشوارع رفضاً للانقلاب.
كما برز دور وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت محرك هام للشعب التركي الذي لم ينتظر متابعة الأخبار على شاشات الفضائيات، وكان ينقل فيما بينه الأخبار والمستجدات ويحث على النزول للشارع، ليثبت أن زمن نجاح الانقلابات بمجرد السيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون الرسمي قد ولى.
فوضى إعلامية
لكن اللافت كان الفوضى الإعلامية الكبيرة التي خلفتها محاولة الانقلاب الفاشلة في كل وسائل الإعلام العالمية، ومن ضمنها الإعلام العربي الذي كان منقسماً اتجاه أحداث تركيا بين من يحرض علانية ويدعم الانقلاب ومن يدافع عن الديمقراطية، حيث كشفت ليلة الانقلاب في تركيا عن المواقف الحقيقية للإعلام العربي والدولي الذي يدعى المهنية والمصداقية.
تحريض وسائل الإعلام الدولية خاصة الفضائيات التي تتبع دولا أوروبية وأمريكية كان جلياً رغم محاولاتها التستر بالمهنية، لكن الأكثر فجاجة كانت القنوات العربية والمعروفة بدعمها الانقلابات العسكرية في كل مكان، والتي كانت تؤيد علانية الانقلاب وتصف أردوغان الذي خرج وحزبه منتصراً من كل الانتخابات التي خاضها في تركيا منذ العام 2002، بالطاغية والديكتاتور.
ورغم أن مجريات الأحداث تغيرت خلال عدة ساعات، وبدأت الحكومة التركية تسيطر على مفاصل البلاد، وتعتقل الانقلابيين إلا أن هذه القنوات أصرت على دعم الانقلاب، كما خرج عدد كبير من الصحف العربية في اليوم التالي بعناوين تؤكد نجاح الجيش والانقلاب والاطاحة بأردوغان في انحياز واضح ويترجم الأمنيات لهذه الوسائل ومن يقف خلفها.
التغطية الفلسطينية لم تكن بمعزل عن هذا الانقسام أيضاً، فبكثير من الانحياز وقليل من المهنية غطت الصحف الفلسطينية المقربة من حركة فتح أحداث الليلة الدامية التي عاشتها تركيا، فاهتمت هذه الصحف بأنباء الانقلاب، ولم تتوقع فشله فنامت على شماتة معلنة بالرئيس التركي قبل أن تستيقظ على خيبة أمل بفشل الانقلاب.
اللافت كان العناوين التي تصدرت هذه الصحف، فالحياة الجديدة عنونت صفحتها الأولى "تركيا في مهب الجيش"، بينما القدس وضعت مانشيت "ضباط في الجيش يعلنون الاستيلاء على السلطة وفرض الأحكام العرفية في تركيا"، في حين صدرت صحيفة الأيام على صفحتها الأولى "تركيا: الجيش يعلن الاستيلاء على السلطة وفرض حظر التجول والأحكام العرفية في البلاد".
احتفاء بالفشل
بقعة صغيرة من هذا العالم أطفئت أنوارها إجبارياً قضى سكانها ليلتهم يتابعون بشغف وخوف الأحداث الدائرة في تركيا بقدر ما سمح لهم جدول الكهرباء بذلك. ولم يكن من الضروري انتظار نهار اليوم التالي ليظهر حجم متابعة سكان قطاع غزة لأحداث تركيا، ففي ساعات الليل تزاحمت الاتصالات بين المواطنين لتناقل الأخبار وعجت مواقع التواصل الاجتماعي بالمغردين الذين كانوا يدعمون الشعب التركي في المحافظة على تجربته الديمقراطية العريقة.
وليس من الغريب أن تحظى أحداث تركيا بهذا الزخم والاهتمام الغزاوي خاصة أن تركيا ورئيسها من أبرز الداعمين لها والرافضين للحصار.
غزة تابعت بقلق كبير محاولة الانقلاب واحتفت بفشله ليس فقط لأن تركيا من الداعمين القلائل لها والرافضين لحصارها والحروب ضدها، بل لأنها تعرضت من قبل لمحاولة انقلاب على الديمقراطية ونتائج الانتخابات التي جرت عام 2006 وحمت هذه النتائج وبقيت لقرابة العقد تدفع ثمن تجربتها الديمقراطية التي لم يقبل بها العالم المدعي أنه صاحب مشروع ديمقراطي.
كما أن غزة اكتوت بنار الانقلابات العسكرية التي جرت في بعض الدول العربية بعد الربيع العربي ولم تكن بمنأى عنها، فكانت وما زالت تدفع ثمن مواقفها، إلى جانب أنها كانت تترقب تخفيف الحصار كما نص الاتفاق التركي الاسرائيلي الذي عقد قبل عدة أسابيع فقط.
وقد خرجت الحشود الغزاوية في اليوم التالي لمحاولة الانقلاب الفاشلة تحتفل بفشل الانقلاب من خلال مسيرات كبيرة جابت شوارع القطاع، كما هنأت فصائل المقاومة الفلسطينية الشعب التركي وحكومته بنجاحه في المحافظة على تجربته الديمقراطية