يلفت الروائي التركي أورهان باموك في روايته "غرابة في عقلي" إلى أن مدينة إسطنبول -التي تحتضن خليطا من الشعوب والأعراق- تشتمل على نقائض وتنفتح على أحداث غريبة لا يمكن للمرء أن يتصورها، لذلك فهي لا تنفك تنقل تلك الغرابة إلى سكانها وأبنائها المتعلقين بها، بحيث يجدون أنفسهم مسكونين بغرابة متجددة لا يستدلون على أسبابها بدقة.
ويختصر باموك الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2006 فحوى روايته، لافتا إلى أنها قصة بائع شراب البوظة مولود قره طاش، ومغامراته وأحلامه وأصدقائه، وصورة حياة إسطنبول بين 1969 و2012 بعيون كثير من الأشخاص، لكنها في الواقع تأريخ معاصر لمدينة إسطنبول في مختلف المحطات التاريخية المهمة التي عاشتها بعيون باموك وشخصياته.
شاهد معاصر
يستل باموك عنوان روايته من مقطع للشاعر الإنجليزي وليام ووردزوورث (1770-1850) يقول فيه "كان ثمة غرابة في عقلي، وشعور لا يعود إلى ذلك الزمان ولا إلى ذلك المكان"، ليؤثث انطلاقا منه فضاء روايته التي تتغلغل في أزقة إسطنبول وبيوتها وتفاصيلها، ملتقطا كثيرا من الأحداث وتداعياتها على الناس العاديين البسطاء الذين يعيشون على هامشها، وضحاياها في الوقت نفسه.
الفتى الريفي مولود الذي يذهب إلى إسطنبول ليعين والده في العمل يجد نفسه متعلقا بأزقتها عاشقا لها، يستقر بداية في منطقة عشوائيات ومخالفات في بيت صغير، يدرس إلى جانب عمله في بيع البوظة بالأزقة، تنجلي له كثير من الألغاز والأسرار بطريقة بسيطة من دون أن يقرر البحث عنها، يصادفها في طريقه وهو يتجول حاملا بضاعته متنقلا بها في المدينة.
يضع باموك بطله شاهدا معاصرا على الأحداث التي شهدتها تركيا عموما، وإسطنبول خصوصا، في تلك الفترة تراه يتابع أخبار الانقلابات العسكرية عن بعد تارة، وتارة أخرى يكون في قلب الحدث، ويشهد التغييرات الكبيرة الحاصلة والجرائم التي اقترفها العسكر بحق البلاد والعباد.
كما يلتقط باموك مفارقات من تأثيرات الانقلابات العسكرية السلبية على الحياة في تركيا بمختلف تفاصيلها، تراه يدين الانقلابات بطريقة روائية تاريخية، ويقول إنه كان يتم تحويل المدينة بعد الانقلابات إلى ثكنة عسكرية، كان الجيش يعلن حالة الطوارئ ويمنع التجول في تركيا كلها.
بالنسبة لبطل الرواية فإنه كان يفهم من خواء أزقة المدينة خلف الجدران أن هناك ما هو غير عادي، يتابع بيانات قائد الانقلاب عبر التلفاز، يبدو له الأمر كأنه ناجم عن غرابة في عقله، كان يشاهد ممارسات قائده العسكري في الموقع الذي كان يخدم فيه، وكيف كان يحتقر الناس والقانون ويتعامل بفوقية وانتقامية.
في لفتة ساخرة وعلى هامش الانقلابات الدموية التي شهدتها البلاد والخوف الذي كانت تبثه وتزرعه بين المواطنين يشير باموك إلى أسلوب الحذر التي اعتاده الناس في ما بينهم آنذاك وأثناء محادثتهم لغريب، كأن يفصحوا عن رأي بداية وعن نقيضه تاليا بعد الثقة بالشخص، وإحالة ذلك إلى أن الرأي الأول كان الرأي الرسمي، في حين كان الثاني هو الرأي الشخصي.
إرث تاريخي
ويمضي المؤلف ببطله مولود في بحر من الغرابة في الواقع والخيال معا، يكون مسكونا بغرابة لا تزايله، يمشي في الدروب التي اختارها الآخرون له بطريقة ما، فوالده أورثه مهنة شاقة لا تدر كثيرا من المال، وصديقه سليمان خدعه حين كان يكتب له رسائله إلى حبيبته، أخبره أن اسم حبيبته هو رائحة، في حين أن المقصودة كانت أختها، ونتيجة لهذا الالتباس الحاصل تزوج رائحة وكان يظنها أختها التي تعلق بعيونها الجميلة، وبعد قرابة عقدين من الزمن ووفاة زوجته يعود للاقتران بأختها التي كان قد أحبها بداية.
ويظهر باموك التشوش الذي يسكن عقل بطله وروحه، يعتقد أنه يمكن للإنسان في المدينة أن يشعر بالوحدة في وسط الزحام، وما يجعل المدينة مدينة هو إمكانية الإنسان إخفاء الغرابة التي في عقله.
كما يصور جوانب من مخاوفه الدائمة من كل ما يحيط به، من الكلاب والعتمة والغربة، والحروب المستعرة بين أبناء الأحياء الفقيرة، وحلمهم بالانعتاق من حدود عالمهم المنغلق عليهم المقيد لطاقاتهم وقواهم.
يؤكد بطل الرواية على مقولته إن هناك غرابة في عقله، وإنه مهما فعل يشعر بأنه وحيد في هذا العالم، تتحول تلك الغرابة إلى غربة متعاظمة ينقلها معه أنى حل وارتحل، وتلازمه في كل عمل يقوم به، تصبح جزءا من شخصيته وعلامة نفسية فارقة من علامات انتمائه للمدينة التي ظلت غريبة عليه رؤوفة به، تفاجئه كل مرة بغرائب لا تخطر له على بال، على الرغم من إقامته فيها عقودا.
تراه يعود إلى حبه الذي يجد فيه خلاصه، حبه لحبيبته الراحلة ومدينته وبلده وعمله، مؤكدا على أن الحب وحده يكفل الخلاص للجميع.