قائد الطوفان قائد الطوفان

مقال: الفلسطيني بين التدخل والانعزال

زياد ابحيص
زياد ابحيص

زياد ابحيص

 

لا تنطلق فكرة عدم تدخل الفلسطيني من الاعتقاد بأن دم الفلسطينيين أزرق، أو أنهم قومية قائمة بذاتها فوق القوميات الأخرى، إنما تنطلق هذه الفكرة من حقيقة موضوعية تفرضها الوقائع: فالفلسطيني يخوض الصراع الأبرز والأصعب، فهو يحارب المشروع الذي اختارت قوى الغرب زراعته ورعايته في قلب المشرق العربي ليكون ضمانة أصيلة لتفتيت المنطقة ومنعها من استعادة وحدتها ومن التأسيس لنهضتها، فهي المنطقة المركزية للحضارة الإسلامية التي شكلت المنافس الحضاري الأبرز والأشرس والأطول عمراً أمام العقل الغربي، وهذا ما أسس لضرورة اتخاذ كل الإجراءات لمنعها من العودة إلى هذا الدور، واستدامة الهزيمة المدوية التي تمكن الغرب من إلحاقها بها في الحرب العالمية الأولى مطلع القرن العشرين، وهذا ما يفسر انتقال رعاية المشروع الصهيوني من بريطانيا وفرنسا اللتين كانتا تشكلان مركز القوة الغربية الاستعمارية في القرن التاسع عشر إلى الولايات المتحدة التي باتت تشكل هذا المركز منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم.

تشكل الصهيونية مشروعاً إحلالياً، يقتلع جزءاً من النسيج البشري والثقافي لهذه الحضارة، ويبتلع الجغرافيا التي كانت تقوم عليها، ويحول هوية الرموز الدينية والثقافية الماثلة فيها، وليحافظ على بقائه واستدامته فهو بحاجةٍ مستدامةٍ لتفتيت بقية أجزاء هذا النسيج في سوريا ولبنان والأردن ومصر والعراق والخليج والسودان، وتركيا تشكل جزءاً أساسياً من هذا المحيط المقصود بالتفتيت، ولا يمكن أن نغمض أعيننا عن حقيقة كونها المركز السابق له؛ كما أن هذا المشروع الإحلالي بحاجة مستدامةٍ لاستدعاء التدخل الخارجي، الغربي تحديداً، لاستدامة اختلال ميزان القوة لصالحه، وهو من هنا يشكل آليةً دائمةً للتفتيت واستدامة التدخل يمكن للغرب أن يعتمد عليها لأنها تعمل بشكلٍ ذاتي.

في القلب من هذه الصيرورة التاريخية يقع الفلسطيني، مطحوناً باقتلاعه وقضم أرضه وتأسيس الاستيطان على أنقاضه، وبمواجهة مشروعٍ يشكل رأس حربة القوة الغربية في إخماد هذه المنطقة وتفتيتها، على أرضٍ محملة بالرمزية الدينية بقدسية مسجدها الأقصى وكنيسة القيامة وادعاءات القدسية اليهودية لحكمة سبقت في علم من حباها بهذه الطبيعة وهو عالم بأنها ستكون مركزاً أساسياً في الصراع بين الكتلتين الكبريين على مدى عمر الرسالة الإسلامية.

من هنا فإن عدم تدخل الفلسطيني، أو من ينضم له في خوض الصراع المباشر ضد المشروع الصهيوني أياً كانت جنسيته، ينطلق من إدراك ثقل العبء الذي يقع عليه، وصعوبة المهمة التاريخية الملقاة على عاتقه، فهو ليس معنياً بأن يحمل أي عبءٍ جديد على أكتافه، أو إلى أن يخوض صراع أحد بالنيابة، لأنه يحمل ما يزيد عن قدرته من الأعباء في هذه المواجهة التاريخية، لا أنه يؤمن بتفوقه البيولوجي أو برخص دماء الآخرين أمام دمه.

هذا التشخيص يقتضي ممن يخوض الصراع مع المشروع الصهيوني أن يدرك عدة نتائج تترتب عليه بالضرورة:

الأولى: أن مهمة مواجهة المشروع الصهيوني وتحرير أرض فلسطين هي مهمة يواجه فيها إطاراً حضارياً واسعاً يستثمر في عدوه، فهي مهمة تفوق بالتعريف قدرات الفلسطيني، لكن لا مفر له من خوضها، ومن أن يلعب دور رأس الحربة الذي يستنهض أمته العربية وأمته الإسلامية لخوضها معه وإلى جانبه، ليوسع دائرة من يرجحون كفة قوته في مواجهة عدوه المشبع بالداعمين وبأسباب القوة.

الثانية: أن يدرك بالتالي أنه متأثر بالضرورة باختلال موازين القوى المحيطة به، فكلما ضعف محيطه الذي يرتكز إليه أو تفتت أو بدّد قوته في صراعاتٍ داخلية، بات هو في وضعٍ أسوأ في ميزان القوى، وبات الاختلال لصالح عدوه أكبر، ومن هنا فهو مهتم وحساس، بل وشديد الحساسية بشكلٍ فطري تجاه محيطه، ودائم التحليل والدراسة والفهم، ليس رغبةً في التدخل في شؤون هذا المحيط بل تطلعاً إلى توجهه بالاتجاه الصحيح الذي يمده بالقوة ويضيف إليه في ميزان القوى وصولاً إلى مشاركة هذا المحيط المباشرة وغير المباشرة في حرب التحرير.

الثالثة: أنه رغم إدراكه ومرارته أحياناً على ما يشاهده من اختلالات إضافية تحصل في محيطه لصالح عدوه إلا أنه مضطر لألا يتدخل بشكلٍ مباشر لترجيح كفةٍ على أخرى، حتى لا يتبدد جهده في الصراعات المحيطة به، وحتى لا يدفع ثمن نتائجها اختلالاً إضافياً لصالح عدوه، لكن هذا لا يعني أبداً أنه لا يدرك أين مصلحته فيها؛ أو أنه لا يملك موقفاً فيها وإن اضطر إلى عدم إعلانه.

الرابعة: أنه معنيّ بالضرورة بتقليص حجم الائتلاف حول عدوه، وبمحاولة ضرب شبكة المصالح التي تمده بأسباب الدعم الكبرى أو التشويش عليها على الأقل. باختصار، هو معنيٌّ بكل شكل ممكن بكل ما يؤدي إلى اختلال الميزان لصالحه: سواء ما يمكن أن يزيده قوة، أو ما يمكن أن يزيد عدوه ضعفاً.

من هنا فإن الطريق إلى عدم التدخل لا يمر بالانعزال، ولا باللامبالاة تجاه مظالم الآخرين وتضحياتهم، ولا بتشريع سفك دمائهم بطبيعة الحال، بل يمر بامتلاك حساسية عالية تجاه محيطه تقديراً وتحليلاً وفهماً ليصل لتقدير الموقف الدقيق، وليعرف ما يصب في صالحه أو ضد صالحه من التغييرات، ومن ثم يحاول إدارة صراعه طويل الأمد مع المشروع الصهيوني وفق هذه المعطيات من حيث الأدوات والآليات والتوقيت، مع الحرص والانضباط بأن يبقى جهده ومحصلة فعله موجهاً للاحتلال لأنه يخوض الصراع الأكثر أهمية والأعمق تأثيراً، وأن تحمل قيادته السياسية رداً واضحاً في الزوايا التي تطالب فيها بالاصطفاف بأنها تمثل شعباً يحمل العبء الأكبر عن محيطه، وليس من المروءة ولا من العدل أن يطالب بموقف، لا أن تبادر تلك القيادة إليها بمناسبة ودون مناسبة.

 

البث المباشر