يرصد التونسي جمال العرضاوي في روايته "جيش الماء" خراب النفوس وانهيار القيم في الاتحاد السوفياتي سابقا في المرحلة التي سبقت انهياره والعقد الذي تلاه، وتقاسم عصابات متنفذة من بعده السلطات فيما بينها، ويعكس آثار الجمود العقائدي الذي ألقى بظلاله الكابوسية على شتى مناحي الحياة في البلاد وخلف بشرا أصبحوا عبارة عن هياكل جوفاء مستلبة الروح والجوهر.
يلتقط العرضاوي في روايته (منشورات مسكيلياني، تونس 2016) جوانب من صراع الأقليات والأغلبية ولعبة الهيمنة والإلغاء والتهميش وكيف تدافعت الأقليات للانكفاء على ذاتها. ويلفت إلى أن التعافي من المرض كان ممكنا بالانصراف شيئا فشيئا عن مركزية الذات المهيمنة إلى الاعتراف بحق الذات الأخرى.
ويقدم إدانة للأجهزة التي ظلت تعمل للنيل من الناس لا حمايتهم كما هو منوط بها نظريا، ويقترح بذلك مراجعة التاريخ واستقراء المستقبل.
شراك الحكايات
يعتمد العرضاوي التشويق عبر مستويات خطاب متعددة ولا يتقيد بحبكة متسلسلة، بل يسعى للخروج من عباءة السرد التقليدي. يحاول راويه الصحفي ديفاكتوف -الذي أصبح شرطيا بالمصادفة- ربط خيوط حكايات متشعبة يجمع بينها بطريقة غرائبية، حيث يتقمص عدة أدوار ويرسم لوحات سردية ويتحرى الحقائق عبر استقصاء الحكايات.
يحصل الراوي على مخطوط مكتوب بالعربي ويبني حكايته على نصف لا يعرف فحواه ويعيد ترتيب الحكايات التي يستقيها من شخصيات متناثرة يوزع عليها الأصوات والأدوار.
يتناوب أناس من مختلف الأقليات على التعبير عن تصوراتهم ورؤاهم وكأنه بذلك يعيد إليهم جزءا من حقهم المهدور على أيدي السلطات السوفياتية الشمولية التي سعت إلى تكميم الأفواه المعارضة والمختلفة، وفرضت لغة جامدة تعكس مبتغاها وممارساتها بتقييد الحريات العامة في البلاد.
هناك شخصيات عديدة تتحرك بإدارة الراوي ديفاكتوف الذي يكون مخرج العرض الحكائي الغرائبي بحلة سردية تتمرد على القوالب الكلاسيكية في الحكاية، يجزئ التفاصيل ويبقيها مفككة تنتظر قارئا يعيد ترتيبها وتركيبها لتشكل حكاية القارئ نفسه عن ذاك العالم.
يفتح المجال أمام سلسلة متجددة من توليف الحكايات، يكون الرواة نسخا عن شهرزادات عربية في روسيا تستعيد أجواء ألف ليلة وليلة بإسقاطات معاصرة.
يعبر الراوي عن رؤاه وتأملاته الأدبية والفلسفية والتاريخية والسياسية، تراه تارة يدعو إلى إفساح المجال أمام الاقتباس وإعادة تأليف الكتب السابقة بما يتوافق مع هوى الراغب والمؤلف الجديد، وتارة أخرى يلعن مؤامرات العصابات المتقنعة بأجهزة الدولة وسبل فتكها بالناس، وكيف أن أجواء الإعلام كانت موبوءة لدرجة أنه كان يتم التعتيم على كل الأحداث المهمة، وما يعرض منها كان يقدم بطريقة مبتورة بائسة.
يؤكد الروائي على أن الكلمة مسؤولية، وعلى سطحية مقولة البناء عبر الهدم، ويرمز إلى قلب الحقائق في ظل نكبة الوقوع تحت الحكم الشمولي، وكيف أن الراوي فقد حريته بخروجه من عالم السجن الذي رافق فيه المرأة الفاتنة "دودة" متقصيا أسرارها وسيرتها، بحيث إن السجن يظل المكان الوحيد الذي يكون فيه حرا، على عكس الشائع والواقع بأن الحرية تمارس خارج السجن.
يرسم صاحب "أيها الطارق بابي استقبلني" لوحة سردية بعنوان "بورتريه الأمير إدوارد" يناجي فيها الراحل إدوارد سعيد (2003-1935) الذي يصفه بأنه يرفع صوت الحياة، وأنه أكبر من المستبدين والطغاة، يحدثه عن حياته في فلسطين وخروجه منها واستقراره في الغرب وشعوره الدائم بأنه في قلب فلسطين.
يسأله: هل تعرف يا إدوارد كيف ترجموك إلى اللغة الروسية؟ ليوضح أنهم ترجموه بالتقسيط والتقطيع: جزء من مقدمة وجزء من خاتمة، ويؤكد أن الهدف كان منعه من دخول روسيا وتقطيع أخباره ككل ما هو فلسطيني، والخوف منه حيا وميتا.
وينوه بأن إدوارد أيضا لم يهتم بالاستشراق الروسي، ويسأله: هل لأنك استصعبت أن ينظر الشرق إلى الشرق بنظرة استغرابية؟
يخاطب الراوي المستشرقين ويسألهم إن كان أحد منهم يستطيع أن يسمع موسيقى أخيه الشرقي وهي تنطلق في موعدها من دون أن يعزفها أحد، وهل يقدر أحد منهم على سماع الأذان في مدينتهم التي لا أذان فيها.
يطلب منهم العودة إلى إدوارد سعيد الذي يلقبه بالأمير إدوارد، وأنه سيقنعهم كما أقنعه بوفاة الاستشراق.
يقول لهم "الاستشراق استشراك.. الاستشراك استشراف، الاستشراف انخطاف أو لا يكون". يعتقد أن الاستشراق في وجهه الحالي أكبر دليل على قصر النظرة الغربية إلى الشرق.
الثلج هو أحد الأبطال المؤنسنين في الرواية، هو الماء والنار في بعض وجوهه وتأويلاته، فهناك رسم على الثلج ونحت به يكتسب معاني جديدة، يحلم الراوي بأن ينحت من الثلج جيشا يحمي أبناء البلاد من عسف يطالها.
وحين تذوب الآلات الحربية المنحوتة من الثلج يصبح الجيش جيش ماء، تعم موجة من الحزن على أهل المكان، تكون ملهاة الثلج ومأساة الماء، حيث الفظائع وتتبدى كرات ثلج تكبر بالتدحرج الزمني والإهمال التاريخي، وكرات نار تحرق الأرض التي تنحدر عليها.